Sunday, August 31, 2025

كتابات على رملٍ زاحف (٢)

 

كتابات على رملٍ زاحف (٢)
عبدالرحيم محمد صالح
دخلت تفكيري "منسربة بشيش" تنكث رف الذكريات ودفعتني لمراجعة كتابها المطمور في أدراج الذاكرة عبر أصداء مرتجعة من بلاد "الطراوة"، من رمال قوز اللباب. لفح وجهي "سموم" ذات التحدي نفسه كيف أكتب عن امرأة لمجتمع يرفع الرجال فيه العصا لمجرد ذكر اسم إحداهن! لكن ظلّ يحثني صوت طروب فريد وأكف تصفق وروائح وعطور ووجوه ساحرة آتية من أزمان مضت هبطت بعبقها على قلبي! كانت لا تبدأ حفلات اللعب في الأعراس إلا بوجود زوجها شرط أن يكون أول من يبشر ويعرض. كان يندرج (يربط شاله على خاصرته) يبرم شاربيه ثم يبرج (نوع من العرضة) ثم يعرض على ايقاع "الكباشي" ودلوكة تهبك "عبدالرحيم مالو ماجا، الكرّار مالو ماجا، سيد الدار مالو ما جاء، الهدّار مالو ما جاء" كان يهوش وينظر في وجوه الرجال يدقق في عيونهم واحداً واحداً يبحث عن متحدٍ (تقولي روميو وجوليت؟). في زمن كان فيه الزار عند النساء كالدكاي عند الرجال مقبول ثقافياً والمخمور يقال له "شبعان"، أما المريسة ومشتقاتها كانوا يسمونها "العيش"، وهذا درب آخر فنحن لا نستطيع محاكمة "جهل الماضي" بمعايير "وعي" اليوم، إن صحّت المصطلحات. أما في مناسبات الزار النسائية كانت تلبس ثوباً "أحمر زاهي" وهي تمسك بمقود حلقات طقس الزار. استرقتُ السمعَ مع بعض أصدقاء الطفولة على إحدى حلقات الزار تلك والتي كانت هي ربان سفينتها وحين سمعتها تغني " أحمد البشير الهدندوي" دخلتُ، أنا، في ذهول فدسترتُ وعسكرتُ في آن واحد. والدسترة هي أن يفقد الانسان وعيه ويأتي بحركات لا إرادية في حلقة الزار أما العسكرة هي يفقد الانسان وعيه ويأتي بحركات لا إرادية في حلقة الذِّكر. امرأة لها ايقاع وصوت لو سمعه المبارك شيخ الظهر لجلس أمامها تلميذاً مبتدئاً. وحين تغنت بـ "النونكَرَرِي" بكلمات من لغة لا نفهمها صرنا كرقعة في سير طاحونة ذلك الايقاع وسَبَحنا في حالة "البين بين" حتى كادت أرواحنا أن تنفصل عن الأجساد. كانت حين تتحدث تتكلم بعبارات واضحة لا تحتاج شرح ولا تبيين ، ظلت على جمالها الذي ما رأينا مثله أبداً، بل ظلت أجمل من الشابات حتى بعد أن تقدم بها العمر. يؤديها بعض علماء علم النفس ويخالفها الفقهاء لكن في قرارة نفسها ما كان لديها ذرة شك أن رقص الزار علاج . ارتحلت لكن بقيت بيننا بذكرياتها وكرمها الفياض وضحكتها الحنون ووجها الذي لا يُنسى، لها الرحمة والمغفرة.No photo description available.

على الطريق إلى بلاد الحنين والوجع

 

على الطريق إلى بلاد الحنين والوجع
عبدالرحيم محمد صالح
كنت أقلّب دفتر أفكاري وأتجول على تخوم حيرتي وأنا أبحث عن مخرج شريان الشمال، أعداد مهولة من الناس عند سوق ليبيا! يقولون إنّ المدن بحار يغرق فيها الناس ولايموتون، صحي والله! المدن اعتادت حياة معذبيها وهم اعتادوا عذاباتها في بلاد نخر عظامها الفسدة و الفاسدون. نظرت عبر نافذة السيارة وقد مالت الشمس الضحا إلى سرة السماء والسيارة تئن عبر الطريق مُيمِّماً شطر الشمال ، إنها حرارة شمس أغسطس التي أدركها جزء من الخريف ومسها شيء من أواخر الصيف ، رأيت بيوت الطين والطوب تعدو إلى الخلف بلونها المائل إلى لون التراب متناثرة في أرض جرداء في بلاد الشمس الحارقة، ثمة وجوه رأيتها كالحة، ضامرة، حزينة، قليلة الكلام على حواف الطريق و"الرزق من الله". لماذا على وجوههم كل تلك القسوة وكل ذلك البؤس ؛ توقفت عند نقطة التفتيش. تقدمت نحو باب السيّارة شابة ممشوقة "متبلمة" لايظهر من وجهها غير عينيها، راحت تتفحص وجهي ملياً ثم قالت مترددة "قدمني معاك ماشية الدبة" بدا لي من سرعة حركة بؤبؤها أنّ خوف ما يداهمها، ربما ألهبتها سياط ذكرى دفينة أثارها شدو صديق أحمد الآتي من سماعات السيارة " من الدبة وإنجرا سريع النهمة فاتا جِرا وجروح قلبي الـ أبت تبرا" لست أدري!! عطفت على حالها معتذراً بأدب وقلت لها خذي هذه أركبي البص أزكى وأكثر أماناً. حين رأى ذلك رجل التفتيش أومأ شاكراً أمرني بالمرور دون أن يسألني.
كنت في جلباب رمادي وذلك " فأل قديم عندنا" كان لايسافر أجدادنا (إلى الريف) إلا وهم في جلباب رمادي وأنا الوحيد بين أخوتي وبني عمومتي الذي يسكنه فأل السفر في جلباب رمادي لا أسافر إلى دنقلا أو منها إلا في جلباب رمادي. وصلت الملتقى بعد مشوار طويل لاشيء فيه غير الأسفلت والصحراء والقليل من الشاحنات. هرع بعض بائعي المناديل الورقية والحلوى نحوي لكن ما أن نزلت من السيارة تركوني وانصرفوا! أخذت كوب قهوة بعد أن صليت وجلست إلى جوار رجل كبير في السن يمد ساقية على المصلاية أمامه وبجواره عكازته. تحدثنا بعد الصلاة والقهوة فعرفت أنه من اب عروق في شمال كردفان، ذكرت له أني كنت ضيفاً عند الناظر آدم ودحسن ودنمر ناظر الهواوير في منتصف تسعينات القرن الماضي تهلل وجهه وتحدثنا كثيراً، ودعته قبل أن انصرف أحضر لي كرتونة منقة فاخرة وأقسم ألّا ياخذ مليماً. فتأكدت أن تحت ذلك البؤس والشقاء رجال قلوبها من ذهب.وصلت الدوم بسلام، لمعت عينا والدتي عليها رحمة وتهللت وجهها وتداخلت مشاعرها وأنا أخطو مسرعاً نحوها للسلام ، لا أعرف سبباً للمعة عينيها وتداخل مشاعرها ربما ذكرتها تلك "الجلابية الرمادية" أيام خلت ، أيام كان والدي يسافر بالإبل الريف ونحن أطفالاً فتلقننا "يا قميري اترسلي ـ أمشي في مَصُر انزلي ـ قولي للراجياه اليجي"No photo description available.

كتابات على رملٍ زاحف (5)

 

كتابات على رملٍ زاحف (5)
فارس بلا فرس
الخرطوم 1980
مَرَّ من خلفهما دون أن يسترق السمع وهو يسير علىُ شارع النيل قريباً من بوابة الجامعة! سمعها تقول لجليسها بصوت فيه غنج "ياولد ح تكمل زهور الـبتونكال قاردن وأنت تقطف لي منها كل يوم واحدة" كان رد جليسها حاضراً "هم لوشافوا الزهرة دي لتركوا زراعة الزهور"، أسرع الخطا مبتعداً وقد نمت على وجهه ابتسامة! هناك رجالٌ الواحد منه مثل قوس الكمنجة يعرفون ملامسة أوتار العشق عند الغانيات! "حَنَك" في لغة شباب اليوم"! قال في نفسه "إحنا تطير عيشتنا، لا عربية، لا قروش،لا تربية بنادر ولا طويل أخدر قيافة" أخذته الغيرة واكتسى بالعداوة بل بات أعدى من الشنفرى، وبدأت قواسيب الكآبة تغزو مساحات جوفه وظلت تخوجل في زواياه المليئة بثوابت وأعراف ظلت على طاولة ذاكرته تؤانسنه وتضئ له الدروب! مثل كثير من أنداده أولئك الذين نشأوا في الريف على رغاء الإبل وثغاء الماعز قليلو المعرفة بالرومانس بنت الدنيا بينهم وبين مايريدون في المدن حائطاً من الفارق الثقافي عليه بعض الفقر وقلة الحيلة ومساحات لا يمكن عبورها. القادمون من بلاد لا أنوار عدا فوانيس قليلة شحيحة الضوء تقف في وجه الظلام إلى بلاد الكهارب والمصابيح الملونة! بلاد يناكف فيها النهارُ الليلَ ولا يمنح الليل فيها الهدوء والطمأنينة كما اعتاد. أتوا من بلادٍ كل شيء فيها كتابٌ مفتوح تكاد تتلاشى فيها الأسرار إلى عالم الخصوصية في بلاد فيها العطور باسماءٍ أجنبية وموسيقى لاتشنِّف لهم أذناً، وسينما وبارات ونساء رشيقات وفتيات وفتية يتجولون في الأسواق. بلاد ينظر فيها الناس إلى ساعاتهم كثيراً والحياة فيها سريعة الايقاع لا تعطي إلا بمقابل! سلك مسار الاجتهاد سوّد صفحات الدفاتر بمداد أفكاره فبرع ونبغ وحافظ على صفحة ذاته بيضاء ناصعة. وجد نفسه في أركان النقاش والندوات والمنتديات والقراءة يفرُّ إليها من حياة المدن، الناس، السيارات، الأضواء، الأزدحام والصخب، فلاسيارة له يغسلها ولا بيت له ليرش أمامه في العصريات ولازيارات عائلية! كان مثل حي بن يقظان في رواية ابن طفيل يتعلم من خلال الملاحظة والتجربة والاستدلال، لكنه ينتظر حدوث شيءٍ لا يعرفه! كأنه كان في انتظار "إزميرالدا" ربانيّة كبطلة رواية أحدب نوتردام يرسلها الله له فيكسر بها الطوق ويكون له مثل ماعند الآخرين ويساعد أهله المنتظرين! مرّت الأيام تتغير الأشياء لكن هناك ثابت واحد ضمن الثوابت لم يتغير أبداً حبّه لأهله واعرافهم وتقاليدهم فبلده تعزُّ عليه لو أن الجدران تنطق لأخبرت. خمس سنوات ظل يحارب فيها شجرة الجهل فيه ليجتثها فزرع وحصد وتخرّج بمرتبة الشرف وصمدَ يركل ثعالب المغريات بقدمه، وظلّ هناك فارس بلا فرس ما غزا يوماً ولا سلب لكنه عاد عودة الفرسان العائدين من معركة رابحة.No photo description available.

 

المفقودات والمعثورات (Lost and Found): الأمانة والضمير الجمعي
عبدالرحيم محمد صالح
في زحام المدن، حيث يسير إيقاع الحياة متسارع كأنه يطارد الزمن، قد تسقط منا أشياء مادية بسيطة: محفظة، هاتف، لكن فقدانها، يختبر شيئاً أعمق من قيمتها المادية؛ فهي تختبر ضمير المجتمع، وتقيس صدق الفرد! هنا في الغرب ولست هنا بصدد المقارنة، لكن في كثير من الدول الغربية، لا تُعتبر إعادة المفقودات فعلاً بطولياً، بل هي فعل "بديهي"، أشبه بانعكاس طبيعي لما يجب أن يكون. يُسلِّم الإنسان ما وجده دون أن يفكر فيما قد يكسبه، لأن ما يُحرِّكه ليس القانون فحسب، بل شعور داخلي بأن ما ليس له لا ينبغي أن يُمس، وكأن هناك عقداً أخلاقياً ملزماً غير مكتوب بينه وبين الآخر المجهول. هذا الجانب من هذه الثقافة، التي تبدو في ظاهرها بسيطة، تحمل في جوهرها فلسفة أخلاقية عميقة؛ إنها اعتراف غير منطوق بأن المجتمع لا يقوم على القوانين فقط، بل على النوايا. ففي لحظة إيجاد شيء ضائع، يُوضع الفرد في مواجهة مع ذاته، ويُمنح حرية أن يختار بين الاستحواذ أو الإرجاع، بين المنفعة الشخصية أو الأمانة. ومن يختار الإرجاع، إنما يُعلن بصمته أن الأخلاق أسمى من الغريزة . ولعل ما يجعل هذه الظاهرة أكثر إدهاشاً للذين اهترأت قماشة أخلاقهم، أنها تحدث دون كاميرات، دون تهديد، دون رقابة؛ بل تحدث في الخفاء، حيث يكون الإنسان وحده في مواجهة إنسانيته. هنا تتجلّى الأخلاق، لا كمجموعة قواعد تُفرض من الخارج، بل كصوت داخلي ينبع من التربية، من الثقافة، من الإيمان بقيمة الآخر. إن وجود أقسام "المفقودات والمعثورات" في محطات القطار، المدارس، الجامعات، والمطارات ، ليس مجرد خدمة عامة، بل هو تجسيد مادي لقيمة روحية أخلاقية: الأمانة. إنها ليست فقط أن نُعيد ما ضاع، بل أن نُعيد الثقة في أن الإنسان، وسط كل هذا الضجيج وتسارع الحياة، لا يزال قادرًا على أن يكون جديراً بأن يُقال عنه إنساناً. أما أن تضج وسائط الميديا بأن رجلاً من الجنسية السودانية أعاد حقيبة رجل ثري فيها مبلغ من المال هو الإفلاس بعينه لأن إعادة شيء مفقود لصاحبه دون ضوضاء وضجيج مفروض يكون الـ default دون انتظار شكر أو مقابل. مش كدة؟
May be a doodle
حجّة الإسلام أبو حامد الغزّالي : أكثر علماء المسلمين كتابة عن الأمانة

القمر الروسي

 

القمر الروسي

عبدالرحيم محمد صالح

أمضينا طفولتنا بين لينٍ وقسوة غدواً ورجعة وبعض الذكريات! بعض أحدث الطفولة تتبخر وتذهب كسرب حمامٍ ما عاد إلى أقنانه وبعضها يبقى ويظل راسخاً كالحجر الأصم "الـ عمرو لا زحّ ولا نضم"!  قيل لنا إنه في سنة ١٩٥٧م، رأى أحد أعمامي، عليه رحمة الله ، رؤية عجيبة طار خبرها وانتشر وأخافت الناس. رأى النجوم في السماء تمشي. ظنّ البعض أنّ موعد القيامة قد اقترب واستفتوا الفقرا وضاربي الرمل ولم يجدوا لذلك تفسيراً. أمر الفقرا الناس بكرامة البليلة، وطلبوا من عمي إلا ينام إلا تحت سقف وألا يخلع طاقيته إلا "للشديد القوي". أمضى الناس ثلاث ليالٍ يُحدّقون ويحسبون فيها نجوم السماء! وفي اليوم الرابع بعد الرؤية وتحديداً يوم ٤ أكتوبر ١٩٥٧م أطلق الإتحاد السوفيتي القمر الصناعي سبوتنك ـ١ (ومعناها حرفياً "رفيق في الطريق")  وكان أول قمر اصطناعي ينطلق إلى الفضاء في إطار برنامج الفضاء السوفيتي. ظل القمر الاصطناعي يعمل٣ أسابيع وقد رآه الناس في أرجاء المعمورة نجماً سيّار حتى نفدت بطارياته وسقط داخل الغلاف الجوي في 4 يناير 1958. رغم أن الإذاعات العربية أطلقت عليه اسم القمر السيّار إلا الناس في البلد اسموه “القمر الروسي" وقد تغنوا بـه للمحبوبات وألهبوا ظهورهم بالسياط "القمر الروسي الـ سار جديد واي أنا العيّان شديد" وعندما انطلقت مركبة الفضاء السوفيتية فوستوك ١ تحمل أول إنسان خارج الغلاف الجوي اسمينا أحد .ومنذ ذلك الوقت استمرّ الروس في الصناعة والاختراع ونحن الغنا ودق السوط وكان آخر أغانينا ونحنُ "نطير ونندق" في وصف المدفع الروسي الشهير في الحرب مع أوكرانيا "نهدك مدفع الروس الـ ضرب أُوكرانيا"

Sunday, November 17, 2024

"الجرّاح" عبدالرحيم محمد صالح

 

"الجرّاح"
عبدالرحيم محمد صالح
كانت امرأة صارمة لا تبتسم أبداً حتى في يوم العيد. في صوتها بحّة واضحة لبسها دوماً "الطِّرقة " أو "الكرب"، لها عينان صغيرتان مدورتان كعيني كديس! وأنف مستقيم وأسنان متراصة منتظمة لكنها صفراء مدبوغة من أثر التمباك، تعيش على ما يجود به موسما "الحوت" والتمر، تشتري الصيرة والدَبِس من الحواتة لتصنع منه صفائح التركين درجة أولى وتبدل الترمس بالتمر وتخزنه في قساسيب مرصوصة أمام بيتها. تبيع ما حصلت عليه لتاجر واحد يحضر في نفس الموعد كل عام وينقدها ثمن التمر والتركين. كانت امرأة "متحددة" لا ابن لها ولا ابنة، تهابها النساء كأن لها قداسة. رغم غلظة طبائعها وقسوتها إلا أنّها كانت جرّاح القرية الماهر، فصادة وحجامة وشلوخ. الطفلة التي تقرر أن الشُّلوخ ستزيدها جمالاً كانت في الحادية عشرة تكبرنا بعدة سنوات لكنها تلعب معنا حافية مترّبة القدمين! كانت تحكي لنا في حكاية غريبة عن رجل من أهل البلدة مات وغُسل وكُفِّن وحمل نعشه المشيعون إلى مقابر تور الشرق وفي الطريق إلى المقابر ركّت دُنانة خضراء غريبة على الجنازة فاق بعدها الرجل وجلس على العنقريب المحمول، خاف المشيعون منه وفرّ بعضهم لكنه أكد لهم أنه لم يمت "بس جاءته دوشة ساكت" صار منذ ذلك اليوم أخنّ الصوت! لم تكمل لنا القصة جيداً حين جاءت أختها جارية تلهث لتخبرها "الليلي دايرين يشلخوكي . "أمسكت بها شقيقتها وإحدى بنات عمها وأخذتاها إلى البيت حيث حضرت الشَّلّاخة. كانت تصرخ وتبكي بأعلى صوتها مما أثار حفيظة والدتها والتي خرجت بشقيقة سنط مشتعلة سحبتها من تحت إحدى القدور ـ ""يا بت دار تفضحينا - خلوني ال أفرطق رأسها عديمة التربية" شقت ثوب خالتها وفرّت لم يردها غير ظهور أبيها فجاءة في باب الحوش، أرادت الهروب من الحوش الخلفي لكن تكالبت عليها النسوة وحاصرنها لركن البيت واقتدنها يجرنها جراً وهي تكتم نحيبها وترتعد إلى العنقريب الذي تجلس عليه الشَّلّاخة. مسكها الخام tonic immobility حين أُحضرت أمام الشَّلّاخة، استسلمت تماماً أرقدتها الشَّلّاخة بكل هدوء ودون أدنى مقاومة ورطبت خدودها بشيء مثل الزيت ثم طلبت من الجموع السكوت فوجموا! أمسكت بموس لها مقبض وشرعت كجراح ماهر في شق الشُّلوخ طولياً أقل حركة خاطئة قد تؤدي إلى تشوه لا ينمحي. ثم نثرت على الجروح بدرة أشبه بالرماد. ووصت بعدم استخدام الماء. برئت جروح شلوخها "ستة مُسطّرة" وظلت لأكثر من خمسين عاماً "تراري" أصالةً وأناقةً وجمالاً إلى يومنا هذا! لو حديد لتآكل وأصابه الصدأ. جراح واللا ما جراح؟. كثيرون الذين كتبوا الشلوخ من المختصين وغير المختصين وربطوها بالأثنية والقبيلة (عدا قلة منهم الأمريكيّ جيمس فارس)، قيمة الشلوخ عندنا جمالية بحتة يدفعها محرك الثقافة على إطارات الذوق الجمالي شاكلة "الشلوخ مطارق لون البرتكان ال لي دمي حارق" و "يا أم شلوخا عشرة مسطرا جلسة يا أبو الحاج اتذكرا" وغيرها.No photo description available.

الحجُّ إلى جبل العشمون

 

الحجُّ إلى جبل العشمون

عبدالرحيم محمد صالح

كان عليّ أن أحمي وجهي وعينيّ من عاصفة رملية قوية بدأت تهب بعد المغيب فور دخولي وادي الحويلة على ظهر ناقة في الصحراء الشرقية في منتصف التسعينات من القرن الماضي. لا أعرف السبب الذي جعلني أبدأ في حداء قديم سمعته من عمي حُمّد أحمد ود حسنة "شوف الجنا قليل الهِمّي ما بيعرف يلف العِمّي" ولا أعرف ما همز الناقة ربما أرادت أن تسبق العاصفة فانطلقت "ترقل" لم أشاء التحكم بوجهتها بقدر ما كان همي التشبث بسرجها طالما سارت في اتجاه الجنوب الغربي. لم تقف الناقة إلا بعد سكون العاصفة! وحين فتحت عيني لم أعرف المكان فقررت المبيت. نمتُ والليل يحتضر حتى أوشكت الشمس على الشروق حين أيقظتني حركة الناقة! وجدتُ نفسي في "خلا قِط" لا أثر لنبات أو حياة وبدت الأرض وكأنها ظلت هكذا منذ نشأة الخلق. لا شيء غير مذاق الهواء الجاف وهج الشمس الحارقة والقسوة وأضلاع الكثبان العظيمة تمتد بلانهاية !بدا جبل العشمون أمامي غير بعيد، على عكس جبل الكاب والذي يتكون من عشرة جبال تجاور بعضها، جبل العشمون جبل واحد. حين وصلت الناحية الجنوبية لسفح الجبل انزعجت الناقة وبدأ الاضطراب بائناً على حركة أذنيها. نظرت فاذا بشيء بدا وكأنه شخص نائم! نزلت وقدت الناقة إلى مكان الشخص قرب حجر في سفح الجبل، فوجدت جثة لرجل كبير في السن جافة تماماً كما هي لم يمسها شيء لا حيوان ولا حشرات منذ زمن طويل، جوارها بقجة وابريق. التقطت بعض الصور لكني كنت حريصاً ألا ألمس شيء. وصلت مروي بعد ثلاثة أيام وأبلغت الشرطة بما رأيت. أرسلت الشرطة تيم مختص لمعاينة الجثة. ورد في تقرير الشرطة "جثة لرجل مجهول الاسم مجهول الهوية مجهول الجنسية، ليست لديه أوراق ثبوتية" وجدوا ضمن مقتنياته مدية وعلبة كبريت ومصحف بخط اليد وابريق، ربما كان من سكان غرب أفريقيا الذين درجوا أن يذهبوا الى الأراضي المقدسة سيراً على الأقدام ليقضوا بقية عمرهم هناك ليجاوروا. كأنه أفرغ جوفه من متاع الدنيا وترك نفسه يحملها توق نبع من وجدانه ليجاور .جلست أتامل!!ما اسمه؟ من أين أتى؟ ابنٌ بار؟ ابٌ عطوفٌ؟ وهل يعلم أهله أن مات تحت سفح جبل العشمون؟ كيف قادته أقداره المستورة في اللوح المحفوظ ليدخل في ذلك "السر" و"النسيان" في وحدة تامة مستوحشاً في ذلك القفر المحيط دون أي أثر يدل عليه !صدق الحق "وَما تدرِي نفسٌ بأَيِّ أَرضٍ تموت".