على الطريق إلى بلاد الحنين والوجع
عبدالرحيم محمد صالح
كنت أقلّب دفتر أفكاري وأتجول على تخوم حيرتي وأنا أبحث عن مخرج شريان الشمال، أعداد مهولة من الناس عند سوق ليبيا! يقولون إنّ المدن بحار يغرق فيها الناس ولايموتون، صحي والله! المدن اعتادت حياة معذبيها وهم اعتادوا عذاباتها في بلاد نخر عظامها الفسدة و الفاسدون. نظرت عبر نافذة السيارة وقد مالت الشمس الضحا إلى سرة السماء والسيارة تئن عبر الطريق مُيمِّماً شطر الشمال ، إنها حرارة شمس أغسطس التي أدركها جزء من الخريف ومسها شيء من أواخر الصيف ، رأيت بيوت الطين والطوب تعدو إلى الخلف بلونها المائل إلى لون التراب متناثرة في أرض جرداء في بلاد الشمس الحارقة، ثمة وجوه رأيتها كالحة، ضامرة، حزينة، قليلة الكلام على حواف الطريق و"الرزق من الله". لماذا على وجوههم كل تلك القسوة وكل ذلك البؤس ؛ توقفت عند نقطة التفتيش. تقدمت نحو باب السيّارة شابة ممشوقة "متبلمة" لايظهر من وجهها غير عينيها، راحت تتفحص وجهي ملياً ثم قالت مترددة "قدمني معاك ماشية الدبة" بدا لي من سرعة حركة بؤبؤها أنّ خوف ما يداهمها، ربما ألهبتها سياط ذكرى دفينة أثارها شدو صديق أحمد الآتي من سماعات السيارة " من الدبة وإنجرا سريع النهمة فاتا جِرا وجروح قلبي الـ أبت تبرا" لست أدري!! عطفت على حالها معتذراً بأدب وقلت لها خذي هذه أركبي البص أزكى وأكثر أماناً. حين رأى ذلك رجل التفتيش أومأ شاكراً أمرني بالمرور دون أن يسألني.
كنت في جلباب رمادي وذلك " فأل قديم عندنا" كان لايسافر أجدادنا (إلى الريف) إلا وهم في جلباب رمادي وأنا الوحيد بين أخوتي وبني عمومتي الذي يسكنه فأل السفر في جلباب رمادي لا أسافر إلى دنقلا أو منها إلا في جلباب رمادي. وصلت الملتقى بعد مشوار طويل لاشيء فيه غير الأسفلت والصحراء والقليل من الشاحنات. هرع بعض بائعي المناديل الورقية والحلوى نحوي لكن ما أن نزلت من السيارة تركوني وانصرفوا! أخذت كوب قهوة بعد أن صليت وجلست إلى جوار رجل كبير في السن يمد ساقية على المصلاية أمامه وبجواره عكازته. تحدثنا بعد الصلاة والقهوة فعرفت أنه من اب عروق في شمال كردفان، ذكرت له أني كنت ضيفاً عند الناظر آدم ودحسن ودنمر ناظر الهواوير في منتصف تسعينات القرن الماضي تهلل وجهه وتحدثنا كثيراً، ودعته قبل أن انصرف أحضر لي كرتونة منقة فاخرة وأقسم ألّا ياخذ مليماً. فتأكدت أن تحت ذلك البؤس والشقاء رجال قلوبها من ذهب.وصلت الدوم بسلام، لمعت عينا والدتي عليها رحمة وتهللت وجهها وتداخلت مشاعرها وأنا أخطو مسرعاً نحوها للسلام ، لا أعرف سبباً للمعة عينيها وتداخل مشاعرها ربما ذكرتها تلك "الجلابية الرمادية" أيام خلت ، أيام كان والدي يسافر بالإبل الريف ونحن أطفالاً فتلقننا "يا قميري اترسلي ـ أمشي في مَصُر انزلي ـ قولي للراجياه اليجي"

No comments:
Post a Comment