"الجرّاح"
عبدالرحيم محمد صالح
كانت امرأة صارمة لا تبتسم أبداً حتى في يوم العيد. في صوتها بحّة واضحة لبسها دوماً "الطِّرقة " أو "الكرب"، لها عينان صغيرتان مدورتان كعيني كديس! وأنف مستقيم وأسنان متراصة منتظمة لكنها صفراء مدبوغة من أثر التمباك، تعيش على ما يجود به موسما "الحوت" والتمر، تشتري الصيرة والدَبِس من الحواتة لتصنع منه صفائح التركين درجة أولى وتبدل الترمس بالتمر وتخزنه في قساسيب مرصوصة أمام بيتها. تبيع ما حصلت عليه لتاجر واحد يحضر في نفس الموعد كل عام وينقدها ثمن التمر والتركين. كانت امرأة "متحددة" لا ابن لها ولا ابنة، تهابها النساء كأن لها قداسة. رغم غلظة طبائعها وقسوتها إلا أنّها كانت جرّاح القرية الماهر، فصادة وحجامة وشلوخ. الطفلة التي تقرر أن الشُّلوخ ستزيدها جمالاً كانت في الحادية عشرة تكبرنا بعدة سنوات لكنها تلعب معنا حافية مترّبة القدمين! كانت تحكي لنا في حكاية غريبة عن رجل من أهل البلدة مات وغُسل وكُفِّن وحمل نعشه المشيعون إلى مقابر تور الشرق وفي الطريق إلى المقابر ركّت دُنانة خضراء غريبة على الجنازة فاق بعدها الرجل وجلس على العنقريب المحمول، خاف المشيعون منه وفرّ بعضهم لكنه أكد لهم أنه لم يمت "بس جاءته دوشة ساكت" صار منذ ذلك اليوم أخنّ الصوت! لم تكمل لنا القصة جيداً حين جاءت أختها جارية تلهث لتخبرها "الليلي دايرين يشلخوكي . "أمسكت بها شقيقتها وإحدى بنات عمها وأخذتاها إلى البيت حيث حضرت الشَّلّاخة. كانت تصرخ وتبكي بأعلى صوتها مما أثار حفيظة والدتها والتي خرجت بشقيقة سنط مشتعلة سحبتها من تحت إحدى القدور ـ ""يا بت دار تفضحينا - خلوني ال أفرطق رأسها عديمة التربية" شقت ثوب خالتها وفرّت لم يردها غير ظهور أبيها فجاءة في باب الحوش، أرادت الهروب من الحوش الخلفي لكن تكالبت عليها النسوة وحاصرنها لركن البيت واقتدنها يجرنها جراً وهي تكتم نحيبها وترتعد إلى العنقريب الذي تجلس عليه الشَّلّاخة. مسكها الخام tonic immobility حين أُحضرت أمام الشَّلّاخة، استسلمت تماماً أرقدتها الشَّلّاخة بكل هدوء ودون أدنى مقاومة ورطبت خدودها بشيء مثل الزيت ثم طلبت من الجموع السكوت فوجموا! أمسكت بموس لها مقبض وشرعت كجراح ماهر في شق الشُّلوخ طولياً أقل حركة خاطئة قد تؤدي إلى تشوه لا ينمحي. ثم نثرت على الجروح بدرة أشبه بالرماد. ووصت بعدم استخدام الماء. برئت جروح شلوخها "ستة مُسطّرة" وظلت لأكثر من خمسين عاماً "تراري" أصالةً وأناقةً وجمالاً إلى يومنا هذا! لو حديد لتآكل وأصابه الصدأ. جراح واللا ما جراح؟. كثيرون الذين كتبوا الشلوخ من المختصين وغير المختصين وربطوها بالأثنية والقبيلة (عدا قلة منهم الأمريكيّ جيمس فارس)، قيمة الشلوخ عندنا جمالية بحتة يدفعها محرك الثقافة على إطارات الذوق الجمالي شاكلة "الشلوخ مطارق لون البرتكان ال لي دمي حارق" و "يا أم شلوخا عشرة مسطرا جلسة يا أبو الحاج اتذكرا" وغيرها.

No comments:
Post a Comment