كتابات على رملٍ زاحف (5)
فارس بلا فرس
الخرطوم 1980
مَرَّ من خلفهما دون أن يسترق السمع وهو يسير علىُ شارع النيل قريباً من بوابة الجامعة! سمعها تقول لجليسها بصوت فيه غنج "ياولد ح تكمل زهور الـبتونكال قاردن وأنت تقطف لي منها كل يوم واحدة" كان رد جليسها حاضراً "هم لوشافوا الزهرة دي لتركوا زراعة الزهور"، أسرع الخطا مبتعداً وقد نمت على وجهه ابتسامة! هناك رجالٌ الواحد منه مثل قوس الكمنجة يعرفون ملامسة أوتار العشق عند الغانيات! "حَنَك" في لغة شباب اليوم"! قال في نفسه "إحنا تطير عيشتنا، لا عربية، لا قروش،لا تربية بنادر ولا طويل أخدر قيافة" أخذته الغيرة واكتسى بالعداوة بل بات أعدى من الشنفرى، وبدأت قواسيب الكآبة تغزو مساحات جوفه وظلت تخوجل في زواياه المليئة بثوابت وأعراف ظلت على طاولة ذاكرته تؤانسنه وتضئ له الدروب! مثل كثير من أنداده أولئك الذين نشأوا في الريف على رغاء الإبل وثغاء الماعز قليلو المعرفة بالرومانس بنت الدنيا بينهم وبين مايريدون في المدن حائطاً من الفارق الثقافي عليه بعض الفقر وقلة الحيلة ومساحات لا يمكن عبورها. القادمون من بلاد لا أنوار عدا فوانيس قليلة شحيحة الضوء تقف في وجه الظلام إلى بلاد الكهارب والمصابيح الملونة! بلاد يناكف فيها النهارُ الليلَ ولا يمنح الليل فيها الهدوء والطمأنينة كما اعتاد. أتوا من بلادٍ كل شيء فيها كتابٌ مفتوح تكاد تتلاشى فيها الأسرار إلى عالم الخصوصية في بلاد فيها العطور باسماءٍ أجنبية وموسيقى لاتشنِّف لهم أذناً، وسينما وبارات ونساء رشيقات وفتيات وفتية يتجولون في الأسواق. بلاد ينظر فيها الناس إلى ساعاتهم كثيراً والحياة فيها سريعة الايقاع لا تعطي إلا بمقابل! سلك مسار الاجتهاد سوّد صفحات الدفاتر بمداد أفكاره فبرع ونبغ وحافظ على صفحة ذاته بيضاء ناصعة. وجد نفسه في أركان النقاش والندوات والمنتديات والقراءة يفرُّ إليها من حياة المدن، الناس، السيارات، الأضواء، الأزدحام والصخب، فلاسيارة له يغسلها ولا بيت له ليرش أمامه في العصريات ولازيارات عائلية! كان مثل حي بن يقظان في رواية ابن طفيل يتعلم من خلال الملاحظة والتجربة والاستدلال، لكنه ينتظر حدوث شيءٍ لا يعرفه! كأنه كان في انتظار "إزميرالدا" ربانيّة كبطلة رواية أحدب نوتردام يرسلها الله له فيكسر بها الطوق ويكون له مثل ماعند الآخرين ويساعد أهله المنتظرين! مرّت الأيام تتغير الأشياء لكن هناك ثابت واحد ضمن الثوابت لم يتغير أبداً حبّه لأهله واعرافهم وتقاليدهم فبلده تعزُّ عليه لو أن الجدران تنطق لأخبرت. خمس سنوات ظل يحارب فيها شجرة الجهل فيه ليجتثها فزرع وحصد وتخرّج بمرتبة الشرف وصمدَ يركل ثعالب المغريات بقدمه، وظلّ هناك فارس بلا فرس ما غزا يوماً ولا سلب لكنه عاد عودة الفرسان العائدين من معركة رابحة.

No comments:
Post a Comment