المفقودات والمعثورات (Lost and Found): الأمانة والضمير الجمعي
عبدالرحيم محمد صالح
في زحام المدن، حيث يسير إيقاع الحياة متسارع كأنه يطارد الزمن، قد تسقط منا أشياء مادية بسيطة: محفظة، هاتف، لكن فقدانها، يختبر شيئاً أعمق من قيمتها المادية؛ فهي تختبر ضمير المجتمع، وتقيس صدق الفرد! هنا في الغرب ولست هنا بصدد المقارنة، لكن في كثير من الدول الغربية، لا تُعتبر إعادة المفقودات فعلاً بطولياً، بل هي فعل "بديهي"، أشبه بانعكاس طبيعي لما يجب أن يكون. يُسلِّم الإنسان ما وجده دون أن يفكر فيما قد يكسبه، لأن ما يُحرِّكه ليس القانون فحسب، بل شعور داخلي بأن ما ليس له لا ينبغي أن يُمس، وكأن هناك عقداً أخلاقياً ملزماً غير مكتوب بينه وبين الآخر المجهول. هذا الجانب من هذه الثقافة، التي تبدو في ظاهرها بسيطة، تحمل في جوهرها فلسفة أخلاقية عميقة؛ إنها اعتراف غير منطوق بأن المجتمع لا يقوم على القوانين فقط، بل على النوايا. ففي لحظة إيجاد شيء ضائع، يُوضع الفرد في مواجهة مع ذاته، ويُمنح حرية أن يختار بين الاستحواذ أو الإرجاع، بين المنفعة الشخصية أو الأمانة. ومن يختار الإرجاع، إنما يُعلن بصمته أن الأخلاق أسمى من الغريزة . ولعل ما يجعل هذه الظاهرة أكثر إدهاشاً للذين اهترأت قماشة أخلاقهم، أنها تحدث دون كاميرات، دون تهديد، دون رقابة؛ بل تحدث في الخفاء، حيث يكون الإنسان وحده في مواجهة إنسانيته. هنا تتجلّى الأخلاق، لا كمجموعة قواعد تُفرض من الخارج، بل كصوت داخلي ينبع من التربية، من الثقافة، من الإيمان بقيمة الآخر. إن وجود أقسام "المفقودات والمعثورات" في محطات القطار، المدارس، الجامعات، والمطارات ، ليس مجرد خدمة عامة، بل هو تجسيد مادي لقيمة روحية أخلاقية: الأمانة. إنها ليست فقط أن نُعيد ما ضاع، بل أن نُعيد الثقة في أن الإنسان، وسط كل هذا الضجيج وتسارع الحياة، لا يزال قادرًا على أن يكون جديراً بأن يُقال عنه إنساناً. أما أن تضج وسائط الميديا بأن رجلاً من الجنسية السودانية أعاد حقيبة رجل ثري فيها مبلغ من المال هو الإفلاس بعينه لأن إعادة شيء مفقود لصاحبه دون ضوضاء وضجيج مفروض يكون الـ default دون انتظار شكر أو مقابل. مش كدة؟

حجّة الإسلام أبو حامد الغزّالي : أكثر علماء المسلمين كتابة عن الأمانة
No comments:
Post a Comment