طواف
وسعي
عبدالرحيم محمد صالح
خرج من برج الفندق الذي يقيم فيه قاصداً الحرم، الفندق في قبالة موضع الدار التي اشتراها أبوسفيان من أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضى الله عنها. خطا يدعو "اللهم اجعلني في حفظك وكنفك وأمانك وجوارك وعياذك من كل شيطان، أنس وجان، باغٍ وحاسد ومن شر كل شيء أنت آخذٌ بناصيته". دخل البيت الذي تُشرع أبوابه لسيول الحجاج والمعتمرين الأبدية من باب الملك فهد فشهد عند الدخول أنّ الملك لله رب العالمين. وقف ذاكراً قبل دخول صحن الحرم وعقله الباطن يسبح في أزمنة بلا آخِر، يوم فتح مكة وتطهير الكعبة من رجس الأصنام وحجة البلاغ، قاربَ الخَطْوَ كمن يخوض في بحرٍ من الطائفين قبالة باب الكعبة قاصداً أن يبدأ طوافه من بين حجر اسماعيل ومقام إبراهيم محملاً بالأذكار. سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، في الشوطين الأول والثاني طفا ويجذبه صوت له نغم صادر من جوف شاب تركي ينشد ويدعو بإخلاص ملحوظ وعن يمينه ويساره أربع نساء من محارمه مدكوكات في زي تركي، كان يرفع يديه عاليا ويجهر في الدعاء متوغلاً في الاستغفار. وحين أدرك الشوط الثالث شده دعاء رجلٍ جاويّ يدعو بصوتٍ عذبٍ ويختم بـ "يا جبّار" حتى ختم الشوط الثالث (بسم الله والله أكبر) وفي أول الشوط الرابع حملته أيدي جماعة صوفية متماسكة ببعضها البعض تماسك النمل حين يطفو في سطل ماء تردد مندفعةً في حماس الله الله! لم يكن يمشي بقدر ما حملته تلك الخلية الصوفية الغارقة، وحين دخل الشوط الخامس دعا باسم الله المعلن "يا قيوم" وسأله باسمه الأعظم الذي يحب فشعر وكأنّ جسده خارج إرادته يعي ويغرق بين سوادٍ وبياض وحين يغرق يصبح مثل شريحة فيلم نَقَتيف وحين يعي يردد "اللهم اغفر وارحم، واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم" خُيِّلَ إليه أنّ سجلات رقيب تتبخر من دفاتر ذنوبه يحملها الأثير بعيداً كما تحمل الرياحُ الدخان أو هكذا كان ظنّه! أكمل الطواف وصلى ركعتين جلس مسلوباً ومازالت تطوف روحه مع الطائفين ويطوف عقله بين أفكار السهروردي وابن القيم الجوزية والنفري وابن حزم. حتى قطع طواف روحه وعقله آذان العصر.
كان حريصاً أن يصلي العصر في قبالة باب الكعبة في الصف الذي يلي الامام .تذكر، وهو مازال جالساً في طرف صحن الطواف ناظراً إلى الكعبة المشرفة، ما قرأه عن تاريخ مكة أن تسعة وتسعين نبياً، من نسل ابراهيم عليه السلام، قبورهم بين الركن والمقام جاءوا للبيت الحرام حجاجاً ودفنوا فيه، وسبعون نبياً آخرون دفنوا عند جبل الخندمة، فخُيِّل إليه أن أديم الحرم مغزول بأجساد الأنبياء وتذكر قول المعري "خفف الوطء فما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد" فتحسس قدميه. ذهب في اتجاه الشرق قاصداً المسعى، فتذكر دعاء سيدنا ابراهيم عند الثنية مستقبلاً بوجهه البيت رافعاً كفيه وداعياً: ربَّنا إِنِّي أَسكنتُ من ذُريتي بِوادٍ غير ذي زرعٍ عند بيتكَ المحرَّم ربَّنا لِيقيموا الصَّلَاة فاجعل أَفئدةً من النَّاس تهوي إليهم وارْزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون". دخل السعي يهرول بين الميلين الأخضرين وكأنه يسمع وقع أقدام أمنا هاجر حين أتمت ذهابها وإيابها سبعاً أمر الله جبريل عليه السلام أن يفجر تحت قدمي الصغير نبع ماء يتدفق فشربت هاجر وطفلها وظل الماء يتدفق وقف ليشرب ماء نفس النفع المبارك ليروي أجراف صدره خيراً وبركة
No comments:
Post a Comment