Monday, June 8, 2020

يا ود سعد نعال البقر جيّابة


"يا ود سعد نعال البقر جيّابة"
عبدالرحيم محمد صالح
"أدتو الأيام جريدي" تناوشته وجوه الفَقْرِ وكان له أطفال قُصَّر فخرج سيراً على الأقدام يشحد في القرى والحلال في أرض الله الواسعة، تحررت حواسه فصار يسأل دون حياء يعطيه البعض ويعطف عليه، وينتهره البعض ويزدريه، ويطرده البعض الآخر ويُذلَّهُ، وكان كلما روادته كرامته تنزف صورة ابنائه الجوعى على جدران دماغه وتتلاشى فيصير غير قادرٍ على شئ سوى الانحناء وسؤال الناس. خرج هذه المرة وقد مضى على خروجه اسبوعان، لم يعطه أحداً شيئا، وكان يعلم أنّ في أقداره الفقر وسؤال الناس ويدرك أنّ ليس هناك أفدح من تلد طفلاً وترسله للحياة فلا يجد غير الفقر والحرمان، وكان حين يأوي إلى فراشه ويخلد إلى النوم، متوسداً كفه المفتوحة، تتناوشه الأيدي التي أعطته كسراب يتجلى كأطيافٍ شبه راقصة فيرى صورته محفورة في الأزمان والوجود، يصبر على سكوت الليل وخدر الجوع والعطش وغلبة اليأس وقهر الرجال. مضت ليالٍ وأيام لم يغمض له فيها جفن، نصحه الناس أن يذهب إلى رجل غنيّ "الغنيّ رب العالمين" فسألهم عنه فقالوا له اسمه "ود سعد". ذهب إلى مضيفة "ود سعد"، توسد خُرْجَهُ ونام حتى الصباح، خرج ثاني يوم حاملاً خرجه على كتفه ماداً راحة يده شبه مكورة أمامه يشحد، عاد في المساء يجرجر نعليه حاملاً ما جاد به عليه بعض الأخيار. قال له ود سعد في لهجة انتهار قاسية: يازول إنتَ داير شنو؟ أنت مش من البارح هني؟ شيل خرجك وياللا من هني! استجداه الرجل وشعر بالإهانة وتهدج صوته "يا أخي خلني ابيت الليلي بس" زجره ود سعد صائحاً: هسع تروّح في ليلك دا، وما ديراك تحوم تجي هني تاني. غاصت رجليه في الأرض حرجاً وتضبّبت رؤيته شعر بخنجر الذل والانكسار يغوص في أحشائه رغم ذلك قال الرجل: "يا ود سعد نعال البقر جيّابة" أي الدنيا لا تدوم على حال (نعال البقر: مركوب مصنوع من جلد البقر). كان رد ود سعد حاضراً : "أمش يازول نعال البقر وكت تجيك سوّها في النار". درات الأيام، و"تلك الأيام نداولها بين الناس" أو الدنيا شوبات والزمان دولاب!
كبر ابناء الرجل وتعلموا وسع الله لهم في الزرق وارتاح ابوهم وصار من الأثرياء الأعيان أصحاب الأملاك ونسى الفقر؛ ودارت الدوائر على ود سعد فافتقر وذهب ماله وشح بصره فصار يخرج يتسول الناس. "يحوم" و"يشحد" إلى أن ذهب إلى بلد الرجل الذي طرده عندما كان سيد حق! ذهب ود سعد الشحاد إلى مضيفة الرجل، فعرفه الرجل "ولم يبدها له" لكن ود سعد لم يعرفه! استقبله الرجل وأَلحفه وضيفه "قابلو ورحبو وباشرو"؛ أعطاه وحث ابناءه ليعطوه ففعلوا وأكرمه غاية الكرم، وحين أراد ود سعد المغادره قدمه بعيداً عن المضيفة. ود سعد يدعو له بالخير ويدعو لأبنائه بالخير؛ ولما ركب ود سعد على حماره  وهمّ بالمغادرة قال له الرجل "ياود سعد نعال البقر جاءت احرقا في النار؟ " وفجاءة  سمع ود سعد صدى صوتٍ من زمن بعيد "يا ود سعد نعال البقر جيّابة" قيل من شدة الخلعة والحرج شعر ود سعد بتجمُّد الوقت وفتح فمه لم يستطيع أن يتفوه بكلمة فشهق ووقعت نعلاه من قدميّه! فصارت مثلا.

No comments:

Post a Comment