"نوح باكٍ"
(1)
Abdelrahim
M Salih
كان
كنَفَسِ الصباح وماكان مثله أحدٌ في الأهل والأقربين، كانت لا تخطئه عيني حين أراه
قادماً وقد خرج للتو من جهة تمر الحامداب على ظهر حماره الأبيض وجلبابه الأبيض
النظيف وعمامته التوتل
الناصعة وقد تدلت منها "عزبة" طويلة جهة اليمين، كنت أجري
لإلتقيه تحت تمر الرغامين أمسك بقلادة حماره بيمني وأجري معه حافياً، مُرِحِباً فرحاً، إلى أن نصل أمام البيت،
أتركه يطرق الباب بعصاه وأذهب أنا لأربط الحمار وأنّزل السرج
وأعود أجري حافياً غارقاً في الفرح، كنت أرى في وجهه
البهي وشلوخه الطولية وجوه الذاكرين وكنت شديد الاطمئنان إليه لأن مشاعره الأبوية
كانت أصدق ماعرفت كان يقف بقامته
المديدة ماداً يده بعيداً عن جسمه عند السلام ممسكاً عصاه باليسرى ضامها إلى جسده
وكأنه يخفيها، يسلم بعبارات لايرددها كالآخرين بل يقولها بوضوح وكأنه يعنيها. كنت حين استرق البصر إليه أرى المروءة
محفورة في ملامحه فهو ابن امرأة
تحجب نفسها عن الأغراب، لا تؤاكل زوجها ولا تتقدمه ولاتدخل عليه إلا في ستر عاشت
بعده نحو ثلاثة عقود ولم تُوصد فيها باب بيته الطيني بوجه
قادم ،
حفظت نسله أنشأت ولده أحسن مايكون . بل
هو ابن رجلٍ تقول أوصافه إنّه كان رجلاً طويلاً بسحنة سمراء ولحية تغطي ثلث وجهه
وأنف مستقيم وشفتين رقيقتين
وشارب كث وعين نافذة عمامة تلتف في مواجات
مواربة إلى أعلى تكسو وجهه علامات الصلاح، كان
حافظاً للقرآن عالماً بأمور الفقة والدين بل كان قاضي
شرع العمودية ومفتيها . جاء من نسل تلك المرأة ومن ظهر ذلك الرجل
فنشأ رجلاً سمح الأصل وسمح التربية وسمح الطبع.
زرت مرقده العام الماضي رفعت الفاتحة تندت يداي وخفت
أثقالي جاءني
حينها أحساس أنّ الموتى حولي ليسوا مدفونين في التراب أنما في الغيب حولي، فوجدت
نفسي أخاطبهم "السلام عليكم ، أنتم السابقون ونحن اللاحقون وأدعو "اللهم
أرحمنا إذا صرنا إلى ماصاروا إليه"
(2)
كأن بالنار ما بالماء من بللٍ حزناً
وبالماء ما بالنار من ضرم (بردة البوصيري) كيف لا؟ وللمكان حرمة وقدسية، بداياته من زمنٍ بلا آخر، نحو
ستة قرون تشهد عليها قبابها الثمانية امتدت فيها المراقد والمدافن حتى صار 'أديمها
من الأجساد" متمددةً من تور بلول شمالاً إلى تور الشرق جنوباً مستودعا لسجلات
الآباء والأجداد الخالدة، أينما تقلب وجهك بين الشواهد تنطلق أمامك ومضات مضيئة
لشخوص وأحداث يختلط فيها نِداء الناعي "الكُبُدّان" بدموع النوائح
الدافقة وأرتال الدعاء الحار المرفوعة من أكفٍ رافعةً الفاتحة صاعدةً نحو سموات
بلا حجب، تلاوات المشايخ وتراحيم المؤذنين القدامى يرفعون دعوات الرحمة والغفران
في أول الفجر! وقفت استرجع الوجوه واللحى التي خُيّل أليّ أنها ردت عليّ السلام!
كم من السنوات مرت؟ تذكرت شبابي الذي ولى وأيام خلت، أشهد أني من كائنات مفعمة
بالأحزان! وجدتني دون أن أشعر أسأل "السلام ياخال؟" ثم ابتعدت بعدها
بهدوء دون انتظار رد.
No comments:
Post a Comment