Monday, June 8, 2020

"أفرش ليكَ قلبي وسادة




"
كانت تملأ أزيار المزيرة الواقعة على درب السوق الضيِّق المؤدي إلى المدرسة الثانوية، واجهته يوماً وجهاً لوجه وهي خارجة من المزيرة  وحين ألتقى ود عينه بود عينها " قلبو قال وَحّ" فتسمّر مشلولاً ومنذ تلك اللحظة خفقت قلوب وسِيلت دموع! أسرعت تسحب طرف طرحتها لتخبئ نصف ابتسامة ساحرة فرت من فاطرها ولتغطي ما بدأ من خدها الأيسر وتعيد خصلة شعر قفزت تستطلع الخبر! خطفت روحه فأسرع جسده مرتبكاً ليختبئ في وسط سيقان الذرة المجاورة  يرقب ببصره منتظراً عودتها وصارت تلك المزيرة المهملة منذ تلك اللحظات منارة عشق وأمنيات تلاحقها أحلامه ليل نهار، وأثناء انتظاره وسط سيقان الذرة خائفا يترقب شاهد أثنين من أخوتها شداد غلاظ يأكلونه حياً، طفت برأسه حكاية تُروى أشتهر بها أحدهما أنه “ضرب عزرائيل بعكاز"! وهو شخصٌ ضار كسوسة في طحين و تسكن في صدره الشياطين (زول شووم)  !تهيّجت دائرة الخطر في دماغه وبلغت درجات التوتر عنده أربعين موجة في الثانية لكنه ظل ساكناً في مخبئه حتى كاد يفوته طابور الصباح ! احسّت هي بإختبائه وهو يرقبها فنقرت على حَجَر مرق المزيرة الغربي بِبُرجُمةِ أصبعها الوسطى ثلاثاً، ففهم الأمَارة (العلامة) . صار ذلك الحجر تحت مرق المزيرة عندهما في قدسية الحجر الأسود عند الطائفين وبدأت بينهما رسائل أختار عناوينها بدقة مثل "أصلو المودة نصيب"، "يالله كيف وين ألقاه"، "أجمل صدفة"، "أكان ناسيني مابنساه" وكان يكتب لها بكل صدق وهو يثق أنها لن تبوح بسره لأحد، فقد قرأ في مجلة روز اليوسف في مقالة بعنوان "الحب أكسير الحياة" أن قلب المرأة أعمق من أكثر المحيطات عمقاً! كانت تتوق إلى تلك الرسائل وتقرأها بشغف فيهل وجهها وينتعش كقمر صحراء وكل كلمة تصير منصةً لإطلاق عنان أحلامها، كانت خطاباته لها في خطها الأنيق و كلماتها الحنينة المنتقاة وعباراتها الناطقة كلوحات تزداد بها خفقات قلبها وتغمر وجهها بحفنات صباح ربيعي، وتقول في نفسها كيف لكتابة بسيطة تعطينا هذا الفيض من الحبور والفرح! وكان حين يدخل من جهة الشمال يرى جِرار الفخار المرصوصة داخل المزيرة المعتقة بطمي خور أرقو كأنها مُلئت بماء زمزم، تسري يداه فتغرف من الزير المحازي لذلك الحجر فيشرب فيتوقف الزمن ويغيب هو في سحب أمنياته وأحلامه وينزل الماء برداً وسلاماً فيسقي جروف صدره ويخيل إليه أن جروحه الباطنة قد إلتئمت .تعلق به قلبها وتمدد إلى حواسها وجسدها فكانت كلماته تتسرب فيه وتدغدغه، كانت تترك له مكان كل رسالة مايشجعه على الكتابة لكنها لم تكتب له ابداً وكان حين يضع يده المرتجفة تحت حجر مِرِق المزيرة يحس أن قبله يخفق بسرعة تسعين ميلاً في الدقيقة ويجف ريقه وتشقق الملوحة شفته (ريقو ينشف).
جاء يوماً ووضع يده جوار الحجر فوجدها تركت له تركت له خصلة من شعرها ودبوساً في شكل فراشة  كانت تُثَبِتُ به شعرها ومنديلاً أخضراً مُطرزاً بحريرٍ بنيٍّ وقد رسمت على كل ركنٍ وردة وعلى الركن اليسار "أفرش ليكَ قلبي وسادة" وعلى اليمين "وداعا، يا عصافير ليه الأسف" وقلباً نازفاً ينتاشه سهم، سمع صوت زغاريد من بيت قريب ورأى خيالها أمامه تودِّعه ببسمتها وطرحتها الجميلة ملقاة بلا مبالاة على كتفيها وجزء من شعرها تاركة ضفائرها تعربد مكشوفة غابت صورتها أمامه في الفضاء،غامت الدنيا في عينيه وادلهمت وأصبح وجهه ممصوصاً كأنه لم ينم منذ دهر! ذهب إلى امتحان مادة ما ذلك اليوم، وما نجح لأنه لا يدري ماذا كتب! تركته هائما في بلاد الله وهو لازال يبحث عن صاحبة خُصلة الشعر تلك في أحلامه وخيالاته!

No comments:

Post a Comment