Monday, June 8, 2020

من أحاجي منطقة دنقلا (٣)



"الصدقُ يبرزُ في المحافلِ عارياً والكذبُ لا يكفيهِ ألفُ ستار"
أو
"أنا أبوك يامُحُمَّد صادق القول"
عبدالرحيم محمد صالح
Salih@american.edu
من أحاجي منطقة دنقلا (٣)
(القراريش الرّعياب ــ بتصرف)
ATU: To be identified 

حقوق النشر والطبع محفوظة 
عبدالرحيم محمد صالح
© Abdelrahim M Salih
كان دائم الحضور في مجلس الملك (المَلِك رب العالمين) وكان كلما اعترض على قوله أو جادله أحدهم صاح بكل مَفخرة ومَفخرة، بفتح الخاء وضمها "أنا أبوك يامُحُمَّد صادق القول" وعندما يسألونه عن صدق ابنه يقول" صدق مُحُمد ولدي ليس له رائحة تشمها أنفي، ولكن يحسه قلبي "ولما أكثر من قول "أنا أبوك يامُحُمَّد صادق القول" في مجلس الملك أخذه الملك إلى القصر الكبير الذي لا يسمح للعامة بزيارته وفتح الحراس أبوابه الخشبية الضخمة الثقيلة فرأى صناديق مليئة بالذهب والفضة وسيوفاً مرصعة مقوسة وبعضها مستقيمة وبعضها له مقابض ذهبية وبعضها له مقابض فضية مَسنونة وسَنينة ورأى سهاماً وكنائن، وحراباً وجفائر وكيراناً وكَيَرة ورايات كثيرة عليها علامات ورسومات غريبة وكتابات لايعرفها و أبواق موسيقية ودفوف وطبول وصناديق خشبيّة، ومزهريات ملونة، وأسِرّة مفروشة ومخدات حريرية وكراسي وأرائك وجفان وأقداح وخزانن من الأقمشة وأنواع من السجاد وقفطانات وعمائم وقبعات مشغولة باللؤلؤ وسروج مطرزة ودروع وعكلات توضع على رؤوس الخيول وخوذات مزينة بالياقوت وأباريق وخناجر وحراب وآلات تعذيب وسلاسل وخوازيق ومقاصل تملأ غرف القصر العتيق.  ثم قال له الملك مارأيته هنا جزء يسير مما أملك أضافة إلى الأرض والزرع والعتاد والرجال! ما لا نملكه نحن معشر الملوك هو الصدق! فنحن قومٌ أصدقنا كذوب  .سنتأكد من صدق ابنك باختباره، فأن صدق زوجته بنتي واعطيتك "من النياق الحُمر الحُرّات مية سايقات مية وحاملات بمية" أما إن كذب فلا مكان لكم في مملكتي!. اجتمع أعوان الملك الحاقدون وتشاروا أمرهم بينهم وأجمعوا إن يستشيروا داهية البلد "العجوز ، أم كلاماً يجوز، أم نخرةً قدر الكوز" في الأمر فأشارت إليهم أن يبعثوا إليها ببنت الملك لتوصيها وترسلها إليه، أي إلى مُحُمّد صادق القول!
مُحُمّد مو راعي غنيمات! وما نشأ يسمع ثؤاج الضأن أو ثغاء المِعْزى بل جرجرة الإبل وهسهسة أخفافها وحنين النوق وصلق فحولها فـ "الإبل عز لأهلها" وفي رعيها متعة وشغفف وهو من قوم لا يسبون الإبل فهي مصدر عِزّة ورأس مال ومنها ركَوبهم ومنها يدفعون المهر والدية والعطية أضافة إلى لحومها وجلودها، لا ينحرون ذوات الدَّر (ذوات اللبن) ولا العشراء. كان مع إبله في العتمور مسيرة ثلاثة إيام من أهله وعشيرته وكانت لمحمد ناقة معروفة بـ "الناقة أم شِق" وهي أم المال التي لا يتعرّض لها أحد وأحسن إبل العشيرة ويسمونها "العشنوقة" لطول رقبتها وارتفاع سنامها و"أم غارب" لوسع غاربها، و"المسلوبة"، لطول أرجلها واستدارة أخفافها ولسرعتها، وطاعتها، فهي لا تصدر صوتا إذا ما أُسرجت وإن قطعت من لحمها قطعة.
"العصييير قريب الغَيبة"  رآها قادمة من بعيد على حصان أبيض فأسرع إليها مُرِّحباً ومستغرباً. تصرفت كما أوصتها جدتها العجوز تماماً، بأنها ابنة الملك خرجت لتعرف حدود مملكة أبيها وأنها تحبّ الصحارى والوديان وأنها سترتاح قليلاً قبل أن تشرع في الرحيل، فأنزلها وأكرمها. سألته عن إبله وحاله وحياته فحدثها عن الناقة "أم شق" وأنها سليلة النوق "بنات الرِّيح" (لها سرعة أضعاف سرعة الحصان). وأراد أن يكرمها بأن ينحر حاشياً من إبله، فلامَته وقالت أنها تحب كبد النياق! فاختار ناقةً عسوس(تُنكِّنسُ عند حلبها) لينحرها لها، فقالت له لن تأكل غير كبد الناقة أم شِق قائلة "بت الملوك مابتأكل الأكل الهِويِّن "كما أوصتها العجوز! فاحتار بين وصية والده وأهله وعشيرته في الحفاظ على الناقة "أم شق" وبين طلبها وعزة نفسه!
توكّل  وكبّر وعقر الناقة أم شِق لبنت الملوك، وأطمعها كما أردات وجهز لها خيمة لتنام فيها تلك الليلة! جاءت إليه بعد أن هجع وأخلفت النجوم، متعللة بأنها تخاف أن تبيت لوحدها وتخشى أن تهاجمها وحوش الصحراء فأذن لها أن تبيت بجانبه في خيمته بعد أن وضع السيف (حدّ الله) بينها وبينه. غادرته الصباح الباكر قبل طلوع الشمس.
وفي عصر نفس اليوم رأى ركب من الناس قادمين فظن أنهم قوم يريدون أن يغيروا عليه وإبله فاطلق الإبل ففرت متفرقةً مبتعدةً وكمن في مكان قريب. سار القوم إلى عدٍ قريب فتبين وجه أبيه برفقة الملك ونفر من أشراف البلد ووجوهها. وكان يعرف أنّ الملك رجلاً مكتبراً وفيه خُزوانَة و بعض عنجهية. أقبل عليهم وكان أبوه  أول من رد السلام، "يامُحُمّد إنتَ طيِّب؟" "أنا طيِّب يا أبوي"، "جُمالك طيبات"؟ "إيي طيبات إلا الناقة أم شِق يا أبوي" ، مالها الناقة أم شِق؟ ماها طيّبة يا أبوي؟ مالها ماتت؟ "لا يا أبوي جاتني البت ال لاها صفراء ولا ها خدراء، خاطفة اللونين، حبتني وحبيتا وشلت أم شق دقيتا" فصاح أبوه "أنا أبوك يامُحُمَّد صادق القول". أوفى الملك بعهده رغم أنّ الملك دائما لا يوفي الوعود،  فتزوج مُحُمّد الأميرة التي أكلت كبد الناقة أم شِق وسكن بعد زواجه القصر العتيق حيث يقوم على خدمته عدد من الخدام وأمتلك كل ما في القصر من خزائن وعتاد وأصبح ذراع الملك وكاتم أسراره و أصبح قصره مفتوحاً "للجار وللرفِيق، وللضيف وللصديق وللمار بالطريق" و "بِقِن الحريم إن شافنو يقولن سَيْ سَيْ"، أما والده فاصبح من ميسوري الحال بعد أن أعطاه الملك من النياق الحُمر الحُرّات مية سايقات مية وحاملات بمية.

No comments:

Post a Comment