وقَبيحٌ بنَا وإنْ قَدُمَ العَهْــدُ هَوَانُ الآبَاءِ والأجْدادِ
عبدالرحيم محمد صالح
تضاربت مشاعري في تلك الليلة الشتوية الباردة وطفت الفكرة في رأسي كفلينة في سطل ماء! بحركة خاطفة نهضتْ من الفراش قبل أذان الفجر الأول وقررت أن أصلي الفجر في مسجد تور الشرق بكرّام. خرجت تاركاً لبرودة الصباح أن تزيح بقايا النعاس عن وجهي. سلكت الشارع "السادر بحري بيت عبدون" واتجهت شمالاً عند طلح ود رحمة و"الليل شرب عطر الطلح" أرخيت جفنيْ بيني وبين ذكرياتي والقمرة نامت في الرمال والطين نتح نديان صِبِح". سرتُ اتساءل في نفسي كيف كنت في صغري اسمع وأنا في الدوم جرس سحور صالح الحداد يرن في قوز اللباب وكيف لا اسمع الآذان من مكبرات الصوت من نفس المكان إلا بعد انصات وانتباه. هل بدأت حواسي تخونني؟ هل تغير المكان كما تغير الزمان؟ أم تغيّرت أنا؟ أم تغيّر كل شيء؟ كيف كنا نسمع صوت اللوري القادم من كرمة قبل أن يصل الحبّاس جهة ديار سعيد نور الله ولا يسمع الناس صوت العربات على الزلط وهي على بعد أمتار معدودة فتقع نتيجة ذلك حوادث مروعة؟ سرت "أخَفِس" مسرعاً استحضر الذكريات واتساءل.. هنا كان "كوديق" علي محمد، على شماله كان دونكي سلمان، هناك كانت مخاضة الحداديد، ذلك مكان نمرة خليل، هناك كانت نمرة القريشي. هذه كرّام، أسأل نفسي من أين أتى اسم "كرّام" من إكرام الميت دفنه؟ من كرامة؟ هل اسم علم لاحدهم في القباب الثمانية الممتدة بين "تور بلول" و"تور الشرق"، هل كلمة نوبية معرّبة ، الله أعلم!..، استغرق المشوار نحو خمسة وثلاثين دقيقة حتى باب المسجد. ما أن دخلتُ باليمين قائلاً "اللهم افتحْ لي أبوابَ رحمتك" حتى أقيمت صلاة الفجر. استغرقت صلاة الفجر وقتاً قصيراً صلى بنا الإمام بقصار السور في صوت خفيض، جلس المصلون بعدها يسبحون ويدعون أو ربما يلهجون بقوائم الأمنيات والآمال، جلستُ أسبح بلساني وقلبي مشغول! خرجت احمل نعلي، بعد أن غادر المصلون وسرت إلى المقابر في خشوع ٍحافياً احتراماً وتقديرا لمن سبقونا وبيت المعري "خفّف الوطء وما أظنّ أدِيم الأرْض إلا مِن هَذه الأجسادِ" يئز في رأسي أزاً .بدأت من ناحية الجنوب واتجهت شمالاً أقرأ شواهد القبور وأدعو بالرحمة للموتى. تأثرت كثيراً وفاضت مشاعري بل غلبتني حين وصلت قبر أبي وبهدوء جلست أرفع أطرافه بالرمال والحصا وأنا أدعو. وضعت يدي على موضع الرأس وتلوت سورة يس والواقعة والرحمن والملك ووهبتها له، اعتذرت عند قبره عن أسفي أذ لم أكن بجواره عند انتقاله وشكوت عن حزني ولوعتي لفراق والدتي التي انتقلت بعده، جلست استرجع الذكريات حلوها ومرها وكأني أحادثه! قطع خلوتي نورالله!"يا زول حايم وسط القبور من الدغش نعل ما في عوجي" قلت له "العوجي جيتك هني أيدك فاضية لا شاي لا قهوة" ... جلسنا عند مسجد العكاشاب وشربنا الشاي والقهوة وتحدثنا عن الخرصانة والاسمنت لبلوكات المقابر، وعن مشروع مقابر لقسم ٤وعن ضرورة السور والتشجير وترحمنا على عبد الله مداقا ، بعد رحيله صار الاهتمام بأمر المقابر قليل. عدت راجعاً حوالي الثامنة والنصف صباحاً ونمت نومة لم أذق مثلها من قبل حتى أيقظني صوت ود كبودي يؤذن لصلاة الظهر.
No comments:
Post a Comment