Wednesday, September 11, 2024

قوم كان في أقدراهم أن ينشؤوا على ظهور الإبل وهذا أرثهم (١)

 

قوم كان في أقدراهم أن ينشؤوا على ظهور الإبل وهذا أرثهم (١)

عبدالرحيم محمد صالح

كان مبيتنا عند عبدالرحيم ود عثمان، وكان قد مضى على خروجنا من الدوم يومان، تصفعنا ريح السموم وتتسلط علينا أشعة الشمس الحارقة مخترقين شمالاً متجنبين المزارع والحواشات في دبوكة من ٦٧ جملاً بخبيرٍ واحد وأثنين من الرعاة وأجير واحد. كنت معهم، رغم صغر سني، مودعاً لا مسافر!، كان الخبير رجلاً في حدود الأربعين من عمره ذي سحنةٍ سمراء وشاربٍ خفيف وعين نافذة ، متيقظ ، بالغ الخفة ، يتفرّس أوجه الناس باهتمام، يرتدي صديري مصري مقصب على عراقي وسروال وغترة رمادية يضعها ملفوفة بإهمال على رأسه. في ذراعه الأيمن ثلاث حجبات وفي ذراعه الأيسر سكين ذراع. يتوكأ على بسطونة مضببة بالصبر واليقين وبندقية أب عشرة حريص على إخفائها. رجلٌ قليلُ الأكل، قيل إنّه نشأ منذ صغره يتعاش على بضع تمرات و"جغمات" من حليب الإبل . دقيق في اختيار كلماته ويتحدث بوضوح لكنه يومئ ويشير أكثر مما يتكلم. رجل يعرف الصحاري وتعرفه ويشبها وتشبه، رجل شبعان فراسة "وضكرنة ورجالة" يحكى أنه هاجمه رهط من الهمباتة جهة الواحة(مسير يومين أو ثلاثة من قعب اللقية) حاصروه ثلاثة أيامٍ بليالها فـ "ركز صبة" أفناهم عن آخرهم وغنم أبلهم وسلاحهم وعاد ولم يفقد عقال بعير فنال ثقة تجار الإبل واعجابهم. كنا قد تأخرنا في معدية أرقو كثيراً لتكدس اللواري وكثرة العابرين، وكنا في أشد حالات اليقظة عند العبور حتى لا يقفز بعير فوق سياج المعدية القصير. وصلنا السيالة قرب مغيب الشمس أولمنا ود عثمان كعادته وطلقنا الأبل في أجراف تم شراؤها من أصحاب السواقي، أمضينا اليوم الأول في تجهيز اللحم الناشف والويكة والشاي والسكر والدقيق والملح والبلح والقرقوش والأدوية مثل المر الحجازي، والحزا، والحرجل والعطرون والتمباك الأخضر وتأكدنا من القرب والسكاكين، والجبخانة والجاز والقطن للزناد وخيط الشلة والأخفاف وغيرها (إذا كانت للخيل حدوات فللإبل أخفاف).أعدت القافلة لتعبر ذلك الرمل الأبدي إلى دراو، اشترى المسافرون ماخف وزنه ويسهل بيعه في مصر، إبر الخياطة، أمواس الحلاقة ماركة أبوتمساح، الشاي الفلت نمرة واحد وغيرها من البضائع المرغوب فيها، حُملت الأبل وأعدت للسفر، ومن عاداتنا أن يودع الناس القافلة ويدعوا للمسافرين بالسلامة وأن يعودوا إلى ديارهم سالمين غانمين. اصطففنا قرابة العشرة رجال ندعوا ونلوح مودعين وانتظرنا وقوفاً نتحمل لحظات السفر والفراق حتى اختفت القافلة من الأبصار

 صورة من محرك البحث قوقل ـ حقوق الملكية محفوظةMay be an image of 1 person and Bactrian camel

Monday, September 2, 2024

فنجان جبنة

 فنجان جبنة

عبدالرحيم محمد صالح
شابة سعودية مليحة فيها لمحة سودانية، في عباءة فاخرة مستندة على كاونتر أحد المقاهي في المبنى الزجاجي على شارع الهجرة المؤدي إلى الحرم على رأسها وشاح أسود يغطي شعرها باسترخاء تفلت منه ضفيرة شعر مسدولة ناحية اليسار! دفعت وشاحها لجذور شعرها الفاحم الكثيف إلى الأمام وعدلت وضع الفوطة المنمنمة الملفوفة حول خاصرتها، نظرت إلى زيّه السوداني وقالت له مازحةً، لن أصب لك القهوة إلا إذا قلت لي "يا ست البنات"! تاه في لهج نطقها لـ "قلت لي" خرج من دهشته وهو يكرر " يا ست البنات لحدهن". شعر الحاج (أب قلباً رهيف) بإنّ عمره أصبح ٢٥ سنة أو هكذا خُيّل إليه! حرص ألا يقع بصره ببصرها تأدباً لكن أهتز وجدانه وعزف مغنياً مع فهيمة عبد الله وعلاء الدين البلولة "يا صيدة يا شبه الغزال، كاتلني في ريدك دلال، عشان عيونك يا جميل أعمل وأسوي المستحيل" وفاحت روائح البن العربي والزنجبيل والهيل والعود الأسود مخلوطة ببرودة المكان وتيار هواء يهب من آخر الردهة. جلدته عيناها كانت نظراتها آتية من ملامح معروفة من ذاكرة بعيدة أو من حياة أخرى، كأنه يعرفها من نبع الماضي أو من أزمانٍ مضت! من روح واحدة انفلقت في مكانٍ يعلمه الله وحده! ربما جاء جدها من بلادنا تلك محمل بالتوق إلى البيت المعمور ليجاور في الربع الأخير من عمره فزرع وبقي (مين عارف المصائر؟) ترك لها ،على الطاولة، إكرامية لا بأس بها، لكنه آثر ألا يذهب ناحية ذلك المقهى مرة أخرى.

وقَبيحٌ بنَا وإنْ قَدُمَ العَهْــدُ هَوَانُ الآبَاءِ والأجْدادِ

 وقَبيحٌ بنَا وإنْ قَدُمَ العَهْــدُ هَوَانُ الآبَاءِ والأجْدادِ

عبدالرحيم محمد صالح

تضاربت مشاعري في تلك الليلة الشتوية الباردة وطفت الفكرة في رأسي كفلينة في سطل ماء! بحركة خاطفة نهضتْ من الفراش قبل أذان الفجر الأول وقررت أن أصلي الفجر في مسجد تور الشرق بكرّام. خرجت تاركاً لبرودة الصباح أن تزيح بقايا النعاس عن وجهي. سلكت الشارع "السادر بحري بيت عبدون" واتجهت شمالاً عند طلح ود رحمة و"الليل شرب عطر الطلح" أرخيت جفنيْ بيني وبين ذكرياتي والقمرة نامت في الرمال والطين نتح نديان صِبِح". سرتُ اتساءل في نفسي كيف كنت في صغري اسمع وأنا في الدوم جرس سحور صالح الحداد يرن في قوز اللباب وكيف لا اسمع الآذان من مكبرات الصوت من نفس المكان إلا بعد انصات وانتباه. هل بدأت حواسي تخونني؟ هل تغير المكان كما تغير الزمان؟ أم تغيّرت أنا؟ أم تغيّر كل شيء؟ كيف كنا نسمع صوت اللوري القادم من كرمة قبل أن يصل الحبّاس جهة ديار سعيد نور الله ولا يسمع الناس صوت العربات على الزلط وهي على بعد أمتار معدودة فتقع نتيجة ذلك حوادث مروعة؟ سرت "أخَفِس" مسرعاً استحضر الذكريات واتساءل.. هنا كان "كوديق" علي محمد، على شماله كان دونكي سلمان، هناك كانت مخاضة الحداديد، ذلك مكان نمرة خليل، هناك كانت نمرة القريشي. هذه كرّام، أسأل نفسي من أين أتى اسم "كرّام" من إكرام الميت دفنه؟ من كرامة؟ هل اسم علم لاحدهم في القباب الثمانية الممتدة بين "تور بلول" و"تور الشرق"، هل كلمة نوبية معرّبة ، الله أعلم!..، استغرق المشوار نحو خمسة وثلاثين دقيقة حتى باب المسجد. ما أن دخلتُ باليمين قائلاً "اللهم افتحْ لي أبوابَ رحمتك" حتى أقيمت صلاة الفجر. استغرقت صلاة الفجر وقتاً قصيراً صلى بنا الإمام بقصار السور في صوت خفيض، جلس المصلون بعدها يسبحون ويدعون أو ربما يلهجون بقوائم الأمنيات والآمال، جلستُ أسبح بلساني وقلبي مشغول! خرجت احمل نعلي، بعد أن غادر المصلون وسرت إلى المقابر في خشوع ٍحافياً احتراماً وتقديرا لمن سبقونا وبيت المعري "خفّف الوطء وما أظنّ أدِيم الأرْض إلا مِن هَذه الأجسادِ" يئز في رأسي أزاً .بدأت من ناحية الجنوب واتجهت شمالاً أقرأ شواهد القبور وأدعو بالرحمة للموتى. تأثرت كثيراً وفاضت مشاعري بل غلبتني حين وصلت قبر أبي وبهدوء جلست أرفع أطرافه بالرمال والحصا وأنا أدعو. وضعت يدي على موضع الرأس وتلوت سورة يس والواقعة والرحمن والملك ووهبتها له، اعتذرت عند قبره عن أسفي أذ لم أكن بجواره عند انتقاله وشكوت عن حزني ولوعتي لفراق والدتي التي انتقلت بعده، جلست استرجع الذكريات حلوها ومرها وكأني أحادثه! قطع خلوتي نورالله!"يا زول حايم وسط القبور من الدغش نعل ما في عوجي" قلت له "العوجي جيتك هني أيدك فاضية لا شاي لا قهوة" ... جلسنا عند مسجد العكاشاب وشربنا الشاي والقهوة وتحدثنا عن الخرصانة والاسمنت لبلوكات المقابر، وعن مشروع مقابر لقسم ٤وعن ضرورة السور والتشجير وترحمنا على عبد الله مداقا ، بعد رحيله صار الاهتمام بأمر المقابر قليل. عدت راجعاً حوالي الثامنة والنصف صباحاً ونمت نومة لم أذق مثلها من قبل حتى أيقظني صوت ود كبودي يؤذن لصلاة الظهر.