١٩٨٣م
عبدالرحيم محمد صالح
بدأ قرص الشمس الأحمر مثل لوحة زيتية على صحفة الأفق خلف أشجار النخيل والدوم وبيوت الطين ووجوه لم تغادر مخيلتي، ظللت واقفاً شرق الحِلّة أقلب وجهي بينما دكنت حُمرة الشمس الغاربة! سرت على الأقدام راجعاً؛ رائحة مميزة ملأت حواسي أقرب ما تكون لروائح تعرفها طفولتي مثل تركيبة عطار بارع جمع روائح البحر والترمس والطين والبرم والتقطت رادارات حواسي أصوات فاضت من أزمان بعيدة . تجمعت سحب الذكريات العذبة وهطل هتانها على قلبي! هنا كانت بويرات حامدة (جمع بويرة تصغير بير)، حيث كنا في طفولتنا "نَكُر الحوت"، قطع ذلك الهدوء صوت برينسة تقطع الرمال كما تمخر السفن البحار، جلس على التندا ثلاثة رجال ملثمين وعلا صوت شريط الكاسيت يغني بصوت ساحر "حنني يا أختو الكبيرة وحنني وسوي لي الضريرة وحنني لي بت القبيلة" مرّ مخلّفا خليطاً من الغبار ورائحة البنزين. التقطت نفساً ثم مررت لساني على شفتي السفلى ليرطبها وأنا اتتبع النغم وأنظر إلى البرينسة تعلو وتهبط في مطبات مجرى درب العربات "المبحِّر" شرق العوازمة. داهمتني وجوه اهترأت في ذاكرتي ملامحها، هنا كانت طلحاية "بت إدريس" وزريبة أغنامها، وهنا كان القبر القديم الذي نبشه أحد أعمامي ظنّاً منه أن سيجد خزنة يحرسها "دَقَرٌ" له قرنان بينهما جوهرة لـِيصبح بعدها غنياً لـ "جنا جناه"، أضاع عمي يومه وأهدر جهده بعد أن تبين (لنا لاحقاَ) أنه قبر لرجلٍ مرويٍّ فقير. ظلّت الخزنة ودقرها ذو القرنين تلاحقه في أحلامه وحكاويه لكنه لم يجدها في يقظةٍ قط. وفجاءة انسل آخر شعاع من الشمس وقد غاب نصفها بين أفراق تمرات عبد الله الأسطى منيراً جرائد النخل بلون ذهبي يخاتل البصر راسماً آخر خطوط لوحة الغروب. عاد الرعاة من "العبادة" وكذلك الزراع يحفهم اليقين والرضا، تذكرت قول أمي "يا ولادي المغرب شيطان" قفلت عائداً وصلت إلى بئر الحصا في جنينة النخل وغرفت دلواً من الماء الدافئ وقد أذّن ود رحمة لصلاة المغرب قبل أن أكمل الوضوء. جلست بعد الوضوء اتفكر في الصراع بين الثقافة والدين نتفاءل بالشروق ونتغنى بالمغيب بالخدود الشاربة من لون الشفق عند المغارب ديل خدودك سيدي سيد الناس يا سيد الحبايب" ونطرب بـ "نحن راجعين في المغيرب" والدين يقول ما معناه الشمس تطلعُ بين قرنيْ شيْطان ويقول أيضا "إِذَا كَانَ جُنْحُ الليل أَو أمْسـيتُمْ فكفُّوا صبيانكم". وقفت أمسح الرمال بقدمي اليمني وأقيم الصلاة!

No comments:
Post a Comment