Sunday, March 17, 2024

 

بروشٌ وأباريق

عبدالرحيم محمد صالح

على سريري في وسط الحوش كنت أُلهي نفسي بفتات أفكاري فارتخيت للنوم بعد منتصف الليل وصحوت حوالي الرابعة صباحاً أبحث عن آذانات زمان! أبحث عن صوت حمزة الزّراع، عن آذان ود رحمة وصوت آذان نوري فقير درار ! خرجت على غير هدى في اتجاه الزلط شرق الحلة وبعدها بساعة غرقتُ في الصمت جالساً في عتمة الليل بجوار أجمة نبتٍ برِّيٍ جاف على مقربة مما كان يُعرف بـمقابر "السحابات" غرب الزلط والتي لم يعد فيها قبور. أدركني الفجر وتكاثرت الآذانات في الأفق آتية مكبرات الصوت من شتى الجهات بأصوات ونبرات وغنات ومدات مختلفة حسبتها ثلاثة عشر آذاناً بالتمام والكمال. كان من بينها صوت الآذان الآتي من جامع الحداديد مختلفا يمس القلوب. قبل نصف قرنٍ من الزمان ما كان بين أهلنا من يصلي بالناس التراويح أو يصلي صلاة الجنازة! كنّا نرسل للأئمة في القرى المجاورة. اليوم، والحمد لله، بها ثمانية من المساجد والجوامع وعشرات الحفظة، أطرقت أسأل نفسي هل صار الإنسان فيها أحسن مما كان؟ الله أعلم! رجعت لأدرك صلاة الفجر ماراً بما كان يُعرف بدوم ود كبودي وأنا أفكر في سر الارتباط الوجداني العجيب بهذا الحي الذي أفنيت فيه عقدين من حياتي وسر غرقي في ذكرياته رغم أني تركت البلد قبل أربعين عاماً! لكن رغم ذلك في كل زيارة يتعزز شوقي ويزداد ارتباطي فأنا من عجينة هؤلاء البسطاء لكنهم أفضل مني! لأنهم بقوا وتعاضدوا وزرعوا وحصدوا وحزنوا وفرحوا وخدموا المسنين والمرضى وأغلقوا أعين من مات وسطهم على الشهادة! بماذا ستنفعني جامعات واشنطون يوم لا ينفع مال ولابنون؟ نظرت بحدقةٍ متوسعة إلى المصلى! هنا كانت "كرقة حُمّد صالح" الواسعة المعروفة بدفئها في الشتاء وبرودتها في الصيف مكانها مصلٍ بمكيفين والناس تلهث فيه من شدة الحر في الصيف وترجف فيه من برد الشتاء! بروش سعف الدوم التي كنا نفترشها للفطور والتراويح أمام تلك الكرقة كُنّا نراها كالسجاد العجمي! يطالب المصلون اليوم بتغيير فرش المصلى بسجادٍ ألين وبطلاء الوضاية بالسراميك ! هل تغيّر الناس أم تبدلت الدنيا؟ أم أنا سجين الماضي؟ هل يا ترى إن عدت بعد هذه العقود من الغربة سأكون مثلهم؟ ومضات تجئ وتذهب.. قديم وحديث، ماضٍ وحاضر، أجدادٌ وأحفاد! لم أسأل ولم يسعفني أحدٌ بجواب.

 

No comments:

Post a Comment