Thursday, February 22, 2024

كرامة

 

 كرامة

عبدالرحيم محمد صالح

جزاه الله عنا كل خير، أرسل لنا ثمن هذا الخروف نذره صدقة وكرامة للأهل والجيران. طوى سجادته، لاحقه صوت والده "لا تنس يا ولد احتفظ لنا بالفروة. ‏ على عجل أجاب بالإيجاب، وخرج مصحوباً بدعوات والده له بالصلاح والفلاح! مُلئت الأباريق وظل فكره مشغولاً وهو يشحذ المدية "سكين الضبح" على "حجر المسن"! قال في نفسه الجنة موصوفة بالفواكه في القرآن، حين يذكر اللحم فغالبا ما يكون لسمك أو طير.. استطرق قليلاً وقال في نفسه لكن "برضو"، هناك ذكر للأنعام والنحر وتذكّر الآية الكريمة (وفديناهُ بذبحٍ عظيمٍ). كان حريصاً ألا يراه الخروف وهو يشحذ المُدَى (السكاكين). طافت برأسه وهو يتحسس شفرة السكين وصف حالات الكرب في الأدب الشعبي الذي كان يردده كثيراً وهو على ظهر حماره "سادراً كان أم مِندلي" "حالي حال ال جنزو وادنو للسكين حالي حال ال في السجن ماخد تمانية سنين". أخفى السكينة وذهب ناحية الخروف وحل رباطه لم يطق النظر في عيني الخروف لكنه رغم ذلك فعل. فعين الخروف صفراء وبؤبؤ العين مستطيل أسود أفقي. تذكّر ما قرأه في كتاب العلوم "إن كانت فتحة بؤبؤ عين الحيوان رأسية فهو مفترس أما إن كانت أفقية فهو فريسة، حين حدّق النظر لم ير في عيني الخروف غير الفراغ واللاشئ! وقبل الذبح كالعادة وجب سقيه الماء لكي تتهيأ عروقه للفتح وكان الخروف لا يزال يلعق، وأضراسه تطحن، قاده جراً من رجله الأمامية اليمنى وهو يتعثر إلى البقعة التي يذبحون عندها بين البيتين، التراب جاف، مستقبلا القبلة أرقد الخروف مقلوبا على جنبه، ربض على صدره، ممسكا بالسكين الضخمة وشقيقاه يمسكان بالأرجل والخروف يثوج ويقاوم. كبر ثلاثٍ و" شخ شخ ضبح"، طار الدم بعيدا باندفاع وهدأت حركة أرجل الخروف حتى توفقت تمام اكتمل الذبح دون فصل الرأس عن الجسد! ظلّت عينا الخروف مفتوحتين ولسانه مثنيّ إلى أسفل .مسح المدية على صوف بطن الخروف المذبوح ووضعت قطعة "بشنتيق" قديم أسفل الرقبة منعاً من أن تصلها الرمال. أعقب ذلك غسيل الرقبة جيداً من الدم . أحدث فتحة صغيرة خلف أظلاف الرجل الخلفية وأُدخلت فيها عصا وتم النفخ في الفتحة لتسهيل السلخ. بدأ سلخ الجلد باحترافية من أعلى إلى أسفل حتى الرقبة. تم فصل الرأس وإخراج الجلد ووضعه على أرض مستوية ليجف، أخرجت الكرشة ليتم تكليف أحد الصبية بغسلها بعيداً عن المكان، عاد بعد مدة يحملها نظيفة كبشكيرٍ جديد. تم حقن الماء في أست الذبيحة المعقلة من عراقيبها ليسهل تنظيف المصارين كان يضغط على المصران بيده اليسرى ويسحبه بيده اليمنى كجراح ماهر. تم وضع المصران نظيفاً في طرف صينية ألمونيوم كبيرة. ثم بدأ في سلب اللحم وتقطيعه قطعاً كبيرة حتى لم يبق غير الصلب معلقاً. ضفر بمساعدة شقيقه المصران نظيفاً جميلاً. وضع الوضم (التولوكي) على قطعة شوال تم تقطيع اللحم وتنظيمه. سُلخ الرأس ووضع بجانب الكرشة وحُملت الصينية للداخل. لم يبق من الخروف غير آثار الدماء والفِعِج المعروف بـ "كبير أخوانو". عمت المكان روائح "قلية البصلة" وعلا الدخان من فتحات ونواشق "الدونكا

يا ملكة ياست الفريق

يا ملكة ياست الفريق"

عبدالرحيم محمد صالح

يا السمحة ما لُمتك أنا ـ فرّقنا حظّنا والزمن، فضل اللحن الجميل في هذه الأغنية الفريدة يرجع للترجمي فقد غنّاها من "جو قلبو" إلا أنّ أداء ود البكري أفضل، حسب إجماع المستمعين، فقد غنْاها بصوت شجي مميز، أدخلت نبرة الحزن بصورة واضحة، وحين يدخل ود البكري على الشطرة الأولى في البيت الثاني "سامع زغاريد في الفريق وقالوا شنطتا والعقد" يدخل الكلام الحوش! وحين يستمر "حسيت بنبضي وقف عديل حتى الفراش ما بترقد". أما أقوى بيت فيها فهو " يوم تمشي لدار العريس ويوم تلبسي الطوق والزفاف إن شاء لبسي يكون كفن". فحسب شخصية وعمر المستمع يجعل ما تستمع اليه من شعر وغناء يوقظ عندك الاشجان يدخل فجاج الروح ولا يخرج. فأن كنت من جيل "الرّعية والربوع" فستتحسس تلك التميمة التي علّقها "الكاهن" الاسطورة محمد جبارة على صدر كل منا "تلات عناقريباً صغار كرابها منقطع نزل ــ والنوم من ال بي فوقها روح داك جفل ــ راقد هناك كوم من ضياع ـ مركب مسافرة بلا شراع وأحلام مسافرة بلا وداع " فتعبر بحر المودة إلى المقل إلى الجنائن والشموس إلى أحد أهرامات الغنا ، فترى لوحات الفن تتصاعد منبثقةً كحبات الرمل من بين أسلاك طمبور ود جبارة لتعانق كبد السماء. أما إذا كنت من جيل "الكاسيت والبكاسي" ستعبر بك الذاكرة إلى "والسمحة قالوا مرحلة جاني الخبر جاني البلا" وهرمين آخرين مصطفى سيد أحمد وشقيقه المقبول شاعر الأغنية والذي عزف عن الزواج في قصة حزينة تعرفونها جيداً (كيف الرجوع لي زوول قنع لملم رفات قلبو الحرق). أما إذا كنت مولوداً في التسعينات ربما أخذتك ذاكرتك إلى "هييي دي مآآلا" أو "ياخالتو ولدك دا" أيهما أقرب إلى وجدانك (No offense) أما إذا كنت من مواليد بعد الألفية فلن تستمع إلى هذا النوع من الأغاني! تذكرنا هذه الأغاني بأغانٍ خلت كنا حين نسمعها وكأننا نقرأ لابن حزم الأندلسي نسرح تلاحقنا أحلامنا أو نلاحقها تتبعنا أو نتبعها .. قيل إنّ الرجل يحتاج أن يسمع ما يفوق استيعابه ليستوعب ما يفوق قدرته على السماع

صورة من جداريات الذاكرة

 

صورة من جداريات الذاكرة

عبدالرحيم محمد صالح

خرجت يوم زفافها تتبعها "البَنَيْنة" والعديلة والزغاريد والعطور والبخور. سارت أمام موكبها تلك السيارة التي تتلألأ أنوارها وتصرخ زماميرها وسيارتها المظللة النوافذ مزيّنة بباقات من الورد الأحمر والتولب الأبيض والبالونات الملونة .حين أطلت برأسها في مدخل القاعة رفعت الجامة الدانتيل البيضاء الشفافة عن وجهها، سحبت طوق شعرها المرصّع باللؤلؤ إلى الأمام قليلاً ورفعت أذيال أثوابها ونظرت فلمعت ابتسامتها مثل سوط برقٍ في ليلة ظلماء وبَرَق عقد الكريستال على جيدها فمطت النساء الحضور رقابهن غيرةً وحَدَجَ وحَدّق العزال وبحلقوا من سحرها وازدادوا حسداً، " يا أرض أحفظي ما عليك ـ تبارك الله"! قال أحد الراسخين في الحلم "إنها حين ابتسمت ونظرت إلى الحضور توارت حسان الحور في جنان رضوان ." واحتجب القمر في السماء حتى كدنا نؤدي صلاة الخسوف! وقفت ممشوقة في فستان عصري مبسوط الذيل مثل فرس سباق وقفت معتدلة بوجهها الفاتن وشعرها الفاحم، كبطلات السينما المصرية القديمة، وتحمل بيدها باقة ورد. والورد في يدها يردد بصوت سيد عبدالعزيز" قامتك لينة وعودها سالك ـــ بدر الكون لو كان وفالك ـــ وشاف نورك خجل انطفألك." وردة الألماس أعلى ثديها الأيسر تضئُ مثل قمر بدا خلف تلة .ثم جاءت الموسيقى الدافئة تنساب مع نواح الكمنجات "كيف ينزعوا الصورة المرسومة في قلبي .. أنا صبحي ومسايَ في عَلِّ وعساي بحبك وحاة ربي" كلّ شيء في المكان غنا طرباً في تلك اللحظة حتى الحجر والشجر في بهو المكان اهتز مردداً مع صوت عابدة الشيخ العذب "يا فرحي وهناي فيك أملي ومناي كيف يرضيك جفاي" تقدمت تغوص في زهر حرير السجاد العجمي لتجلس متوردةً على المنصة العالية المُعدّة للمناسبة، كان بوسع الحضور أن يروا انعكاس سواد السجاد وانوار القاعة من قدمها وساقها المخلوفة على الأخرى. لا أحد يستطيع أن يكتب عن الـ (Anointing) وطقوس الجِرتق في تلك الليلة إلا إذا كان يملك حكمة زرادشت وشعر نيرودا وإلهام المتنبئ!