الحاج قُلُول
عبدالرحيم محمد صالح
منذ أن وصل التلغراف إلى مدير بوستة بريد السير عن عودة الحاج قُلُول من الحجاز وأنه سيصل ضحى الغد إلى دنقلا العُرضي على متن الباخرة الثريا، توافدت نساء القرية وعلت في بيته الأهازيج واختطلت تباشير الفرح بالزغاريد والدعوات والبخور بالمديح وعلت أصوات قريباته بالمدحة المعروفة "حجّوا مدّنوا وصلّوا ياليلة فألنا الحجّو" وقف الأطفال والرجال على درب العربات، بعد ظهيرة ذلك اليوم، في انتظار لوري سعيد أب حوة لوري الخط بين دنقلا وكرمة. لاستقبال الحاج قُلول الذي ودعوه بـ "النوق شادة نحو أم قلة فوق مشهادا قوم يا خيّ" و"الرجال تبكي دموعها جاري، ودموعا تصبق العُصاري". وكان سعيد أب حوة سائق يعرف البروتكول، فما أن وصل محطة عود السِلك حتي زَمّر )ظمّر( البشارة "جيب لى سِمّك وما يهمك" وأعقبها "إنتِ كلك زينة" و"شغل الكوز" تقاطر الناس فرادى وجماعات نحو محطة "دلجة السحابات". وحين نزل الحاج قُلول من المقعد الأمامي للوري، بدأ لي أكثر طولا ونحافةً مما كان عليه! كان رجلاً طويل القامة حنطي اللون له لحية بيضاء دائرية صارم الوجه. كان رجلاً كثير السفر لفترات طويلة كنّا نعرف أنه يعمل "سواق قطر" بين أدبرة وحلفا. وكنت معجباً به لأنّه ليس "سواق إبل" بل "سواق قطر" وزاد إعجابي به حين سألته يوماً عن القطر قال لي أنه عربة طولها (مية راجل) مائة رجلٍ وعجلاتها كلها حديد وأظنّ ذلك كان وصفاً جيداً لطفل عمره في حدود الست سنوات ما رأى في عالمه المحدود غير الكوامر واللوراري. سار الركب يحملون الحقائب يعمهم الفرح معه نحو بيته وارتفع صوت المباركين له بالحج. وحين وصل أمام بوابة بيته وقف أمام الباب منتظراً ، خرجت زوجته بكامل زينتها في ثوب أبيض وعكشٍ وعاجات واحتضنته مباركة له وهي تدعو دعاءً ماتبيناه من كثرة زغاريد النساء خلفها. وحسب الفهم الثقافي للدين آنذاك إذا قصد الرجلُ الحجَ وانتظرته زوجته في بيتها وحفظته في ماله وعرضه ونفسها، فحين "يَقلِدها" مصافحاً بعد عودته تُكتبُ لها نصف حجة! أو هكذا كان فهم الناس في زمن مضى ، زمنٌ كان الناس يعتقدون أن المرأة إذا صبرت على الحمل والمخاض ووضعت جنينها، تقوم من النفاس وصحيفتها خاليةً من الذنوب كوليدها الذي ترضعه.
جاءت ، في مساء تلك الليلة، "السفينة" يقودها مشايخ في قفاطين خضر ورايتان من قرية كلة المجاورة سائرة في انتظام ترتج فيها الأصوات بالصلوات وارتفعت الأيادي بالدعاء وازدات حركات المسابح بين السبابة والإبهام وعلت في المكان روائح الند وبخور العود وما أن وصلت السفينة أمام البيت هُزَّت الرايات وهبت الأجساد وقفوفا في حلقة وعلت الزغاريد واختلطت بـ "مرحبا يانور عيني مرحبا" وانتظمت "حَيٌّ، حيٌّ" مع الدفوف ترحب بمن زار المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام. ذُبِح عجل سمين! شقّت في تلك الليلة، بعد أن أكلوا الكرامة روائح الند والبخور الهندي والجاوي عنان السماء ولهجت الوجوه واللحى بالمدائح ورقص المريدون رفقة شيوخهم حتى انتصف الليل.
أتى من الحجاز بالسجاجيد والمسابح والطواقي وجلب معه ماء زمزم مذاق باطن بيت الله العتيق وذكرى أمنا هاجر والتي حين أتمت ذهابها وإيابها سبعاً أمر الله جبريل عليه السلام أن يفجر تحت قدمي الصغير نبع ماء يتدفق فشربت هاجر وطفلها وظل الماء يتدفق من نفس النبع لأكثر من خمسة آلاف عام أو يزيد. وها نحن نرتشف مذاق نفس النبع على بعد آلاف الأميال كان نصيبي من الهدايا سبحة خضراء لبستها حول عنقي وجغمة من ماء زمزم .سمعنا لأول مرة عن مقام إبراهيم والحطيم أو الحِجر وبوابة بني شيبة وعن دواوين مكة وأبوابها الحديدية الضخمة وحفظناها بيقين لايتزحزح أنّها في بيت الله الحرام سمعنا عن ذلك وانغرس في وجداننا ونحن صبيان نلعب حفاة في قرية لامدرسة فيها ولا مسجد ولا حتى مجرد فقير!
حكى للناس عن المدينة وعن باب السلام وعن درب العيينية والذي علي جانبيه تصطف حوانيت الأقمشة والذهب والسُبح تنتظر الزوار والحجاج. بين الحوانيت وعلى جانبي باب السلام تتوزع الأفريقيات والحجازيات ببروش (وبسطات البيع) يبعن التمر والسمن البلدي واللبن الرائب بالقرعة المعروفة عندنا وذكر إيضا "القصعة" من الخشب وأظنها مانسميه نحن "القدح" وهناك بائعات الفطير (أشبه بستات الكسرة) وكانت هناك أفريقيات مرضعات يرضعن الأطفال بالأجر يسكنَّ في عشش (أكواخ) مطلة على البقيع. وكان هناك فرّاشة يبعون النعناع والريحان والبلح المديني تحدث عن الروضة والقبة الخضراء وعن البقيع وعن قباء حتى بكى الحضور .فهو أول من نال لقب "حاج" في الدوم بجدارة فحجّ وعاد! فماكانت رحلة الرحلة إلى الحج ٱنذاك سهلةً بل كانت محاطةٌ بالصعوبات البالغة والمشاق المهلكة والمجهول. سمعنا عن حجاج من مناطق مجاورة وصلوا مكة متأخرين عن موسم الحج، فاعتمروا ورجعوا إلى البلد دون أداء الفريضة وآخرون قتلتهم الحمى والأمراض وآخرون ماعادوا أبداً.غرس الحاج قُلول، عليه رحمة الله، في قلوبنا حُبُّ أُم قُلّة (مكة) وحُبُّ المدينة المنورة وحُب رسول الله وحبيبه وصفيه ونسأل الله أن يحشرنا في ذمرته ويجعلنا من أهل شفاعته ويحيينا على سنته ويميتنا على ملته يشرفنا بزيارته عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
No comments:
Post a Comment