Monday, June 8, 2020
التمبابة الخضراء
التمبابة الخضراء
الرّوّاسي الذي عاشَرَ بت التمساح
(الرّمية من عندي)
Abdelrahim M Salih
للرَّواويس والمراكبية والنواتة في بلادي البعيدة اساطير وحكايات وروايات وايقاعات وأنغام تجذب القلوب وتسلب العقول وتأثر
الوجدان، ويقال إن الرواسي أباً عن جد (الرواسي ود الرواسي ود الرواسي لسابع
جد) حين يجلس على جاقوس المركب ويعزف على أوتار ربابه ايقاعات الزمن القديم يتموج
النيل وتصفق أمواجه ويتمايل التيار وتتراقص المركب وسط النيل كفتاة في حلقة الرقص
بل يميل الصاري فيأخذ الشّبّال من حدائق النخيل الممتدة على الضفاف فتزغرد طيور السُّقُد
في الجزائر والجروف فتضئ الأسماك وتهلل
التماسيح وتخرج أطيب مِسكها فتكون رحلة
المركب "سَيْرة" في هالة من نور و ضياء
كرحلة الإله آمون (الشمس) وزوجته أمونت وابنهما
خونسو (القمر) الذين معًا شكلوا ثالوث طيبة تحيط بهم
أنوار القداسة في موكبهم الإلهي المقدس المذكور في ديانات حضارات وادي النيل
القديمة، يعتقدُ
البعض أنّ الرَّواويس في بلادنا ورثوا نجارة
المراكب وأسرار النيل من أسلافهم الأوائل أبناء نوح عليه السلام وأحفاد أسلافهم
الذين نجروا سفينة خوفو ومراكب الشمس ذات
الدفتين وعشرة مجاديف ومركب الكا الذي ارتبطت به اسماء العديد من الأماكن الواقعة
على ضفتيْ النيل في بلادنا .
والقصة التالية مشابهة لقصة أوردها الرحالة الجغرافي
أيفيلا شلبي في كتابه الموسوم "استكشاف نهر النيل" والصادر في القرن
السابع عشر حوالي عام ١٦٨٥ م أي قبل أكثر من ثلاثة قرون مع
بعض الاختلافات بين القصتين .
كان الرواسي الشهير صاحب هذه القصة من أكثر الرواويس احتراما، يُرحِّل للناس
بضاعتهم ويجلب لهم اغراضهم ويأتي في موسم جمع المحصول ليأخذ المقابل قمحاً أو
تمراً أو ذرةً مقابل ما أخذوه ، لم يختلفوا معه ابداً لصدقه و لثقهم فيه والعُشرة و لـ "الملح
والملاح". قيل إنّه كان حين يدوزن ربابه ويعزف إيقاع النقلوت تظهر أحدى أناث
التمساح وتتقافز أمام المركب وعلى جانبيه وتطرب طرب الواله المشتاق بل كانت
تستَطْرَبه كما يستطرب الـحُداة الإِبل. وبدأ يرمي لها رؤوس السمك مما يصطاد فألفته وألفها، ملكت
أطراف قلبه وملأت جنبات صدره، بل صار ينتظرها
ويعدُّ لها الطعام من خيرة الأسماك وأطيبها
.كان كلما حدّق في وجهها يخيل إليه أنها امرأة وليست
انثي تمساح. صار يُنَقْلِت لها (يعزف إيقاع النقلوت) وينتظرها فمجئيها
يشفي قلبه من لواعج الاشتياق.
كانت تخرج من النيل جذلى إليه وحده دون الرجال في تلك
المساءات المضيئة بحمرة الغروب ويتغير لونها حين تراه إلى أخضر مغطى بلون ذهبيّ
فتبدو وكأنها فتاة في ريعان الشباب لا أنثى تمساح وتحرك ذيلها وكأنها تُمسِّد به الحقول
وتتغير فيظهر من جسدها ما لا يراه سواه،
فتبدو أساورها على رجلها اليمنى الأمامية زاهية
كاخضرار عباليق الجروف، فينبعث
منها عطر فيحدث الجذب والستر فلا يستطيع رؤيتهما أحد
.
كانت تتخير منتصف الشهر القمري
وعلى غير عادة بنات آدم كانت لا تخرج إليه إلا حين
تحيل. بدأ يبوح بِسرِّها لأخصائه من الرواويس وكان يتحدث عنها كأنها فتاة من أسرة كريمة لا يجوز الاعتداء عليها أو
الحديث عن شرفها، وكان يقول لو أن قاضي الشرع يقبل لأخذها
إليه وتزوجها شرعاً.
كان "يكاويها" الكلب غشّ جدتك (حبوبتك) واستلف لسانها ليلحس به الخمارة
"وزاغ بيهو" ويقول لها أخرجي لسانك فإن فعلت سأصطاد لك مئة سمكة! كانت
تحدثه عن عالم ما تحت الماء ودخلت معه في تحدٍ ذات مرة قائلةً: تبحر أنت من كوج
(رأس) الجزيرة وأسبح إلى فإن وصلت ساب الجزيرة قبلي أتيت لك بذهب بنت السلطان
والتي خطفها جدي الكبير انتقاماً حين اصطاد احد أبناء السلطان زوجته وجعلها بَوّاً
حشَى جلدها تبناً ووضعها على بوابة داره، فحزن جدي عليها حزناً عميقاً وأقسم أن
ينتقم، فقز على مركب السلطان وخطفها من فوق الخُنْ من وسط سبعة رجال وكان يحمل جثة بنت
السلطان ويلوح بها لهم كل يوم ويخفيها لمدة سبعة أيام، وأعطاني ذهبها غنيمة. إن "غلبتني"
أيْ إن سبقتني فلك ذهب بنت السلطان فتكون أثرى الأثرياء، فقبل التحدي على أن يحدد
هو زمن السباق حسب الرياح (نَوْ أو صَلاح)! وحين حان الوقت أخرج كل
مافي المركب أطلق الشراع وأمسكه بيمناه والدفة بيسراه وانطلق في إتجاه
الرياح حتى كادت المركب أن تطير، وحين وصل ساب الجزيرة وجدها وافقةً على ذيلها
أمامه تضحك فخسر الرهان. بدأ صيته يصل
أرجاء البلد حملت الريح التي
انطلقت من الأسواق، سوق السبت وسوق الأحد وسوق الثلاثاء أخبار الرواسي الهائم عاشق
بت التمساح وطافت بها البلاد
كلها كحكاية لم يسبق لهم أن سمعوا بمثلها طيلة حياتهم. أثار
حفيظة البعض وانشق الناس حول أمر قصته بين معجب ومستنكر، ترك العمل في المراكب
فصارت تجلب له بت التمساح قارورتيْ مسك كل
أسبوع يبيعهما لتجار العطور بعشرة قروش وعاش على هذا المنوال عامين ويزيد، أخيراً
ضاق صدره بنظرات الناس إليه خاصة بعد أن وصف شيخ الخلوة فعله مع بت التمساح بالبَغْي والسفاهة، وراح يزوم وحده وظلت تطارده
الهموم، كيف ارتضى لنفسه وهو الرواسي المحترم أن يكون هزأة بين الناس بسبب أنثى
تمساح لا يعرف عنها كثير شئٍ! فترك الحياة على النيل واختفى ليعيش في الصحراء في وادٍ
بعيد. اختفى عن الأنظار ومضت أكثر من ثلاث سنوات كانت تنتظره في الليالي المقمرة
في ساب الجزيرة تهدر وتطقطق وتضرب الماء بذيلها مناديةً له.
مرّت الأيام، وفي ذات ليلة مقمرة أحس بأنفاس حارة تلهب
وجهه فتح عينيه فرأها لم يصدق في بادئ الأمر أنها قطعت كل هذه
المسافة دون خوف وفي نصف ليلة واحدة! عاتبته على تركها ثم صارت
ترغي رغاءً كالأنين وأخبرته أنها في سكرات الموت فجاءت لتراه قبل أن تفارق الحياة .وبدأ
شكلها يتغير ويتشكل تدريجياً، فرأى ما لم يره من قبل! وجه فتاة في ريعان شبابها وقد اغلقت عيناها
السوداوين وعلى وجهها ابتسامة غامضة وبدأ باقي جسمها ولونها
يتغير حتى صارت امرأة في غاية الجمال وأخبرته بأهلها وحكايتها وطلبت منه أن يلقي
جثتها في النيل، قالت له بلفظ
رقيق وكأنها تودعه: "انتظرتك
طويلا وحلمت بك كثيراً ولن أجد لنفسي مكاناً أفضل من
صدرك اتعلق عليه وسأقضي ماتبقى من
العمر بين جروف صدرك، فأنا
لك وأنت لي"،
شهقت ثم نامت نومة إلى
الأبد! لم يفهم ما قَصَدَتْهُ بـ "لن أجد مكاناً أفضل من صدرك اتعلق عليه
وسأقضي ماتبقى من العمر بين جروف صدرك، فأنا
لك وأنت لي" . ترك جثتها وخرج قبل الفجر بساعة، لم يلق
بجثتها في النيل كما أوصت، بل ذهب ليحضر الكفن ويخبر الناس ليساعدوه في دفنها .
وظل سائراً ورأسه يطن من هول ماحدث وتطنحه الهواجس وتتناوشة الأسئلة الحائرة ماذا
سيقول للناس؟ هل سيصدقونه؟ عندما راحت الشمس
تصعد في ذلك الوادي البعيد ، عاد الرواسي ومعه بعض الرجال لم يجدو الجثة ووجدوا في مكانها
تمبابة خصراء (جعرانة خضراء).
أُم ذِمّة
حكاوينا
أُم
ذِمّة
عبدالرحيم
محمد صالح
الصورة: صور قوقل

الصورة: صور قوقل
عندما
هام وأكثر من ترديد اغاني الغرام "أنا كُلّ ما أشوف لي عروسة قاعدي
مجرتقة" نصحه أهله بأن "يكوس الضُلعة الرايحة" ليكمل نصف دينه فيشقى
أو يرتاح. قال في نفسه سأبحث في مشيخة أبي عن بنت تناغمني وتنظر إلى وجهي وتتحدث
معي، فأن وجدتها فستكون تلك هي زوجتي وشريكة حياتي
فتسد فراغ صدري! ركب ناقته "أم ذِمّة" وحمل
زاده وسلاحه وخرج في سبيل امراة ينكحها، سار الدروب والطرقات وكان كلما رأى بنتاً
وقبل أن يبدأ بالسلام "تتبلم" بطرحتها
أو تغطى وجهها وتترك له جادة الطريق وإن حاول التحدث أو التحايل بالسؤال
اسرعن الخطى بعيداً عنه. ظل شهراً بالتمام والكمال يبحث عن بنتٍ
تناغمه! بل
كانت منهن من تركض خوفاً ليقينها إنّ من
الرجال الغرباء من يبني بيتا يكون مهبطا للراحة والسعادة والإلفة
والسكون ومنهم من يبني
سجناً للحياة ومستقراً للجحيم والإذلال؛ فنشأن في تلك الديار والواحدة لها حدس أقوى من حواس الكلاب البوليسية تستطيع
أن تقرأ ما خلف العمم والجلابيب!
كاد
أن ييأس من كثرة البحث ومن تكرار محاولاته التي كان يرجع منها
خالي الوفاض لولا أنه لمح
أحدى البنات، لم تتجاوز
العشرين، في حالة البؤس والشقاء،
تملأ الحوض لتسقى أغنامها جوار عدٍ قريب! ذهب إليها مسرعاً قائلاً " يا بِت هوي ، اسقي أم
ذِمّة" نظرت إليه نظرة البت الفارسة قائلة " أُم ذِمّة ترقُد رِمّة
ويتقسموها الإِمّة، مالَك محنن؟ ما تنزل تنشل تسقي ناقتك براك؟" قال في نفسه
"لقيتا ، لقيتا تب"، نزل وحكى لها أمر خروجه بحثاً عن زوجة تناغمه
ولاتخشاه! فقالت له سيكون عُرسي من ابن عمي بعد ثلاث ليال" قال لها "ياخسارة،
كنت داير اتقدم ليك"؛ قال له الحِلّة
فيها امراة عجوز تقدر تخلي ود عمي يخليني
من العرس لتتزوجني أنت". قالت إذهب إلى
العجوز واستعين بدهائها ومكرها. ذهب صاحبنا إلى العجوز وحكى لها الأمر، قالت له
العجوز دع الأمر لي فقط عليك أن تحضر بناقتك يوم المناسبة "ساعة
الدِّهن"، سألها محتاراً أو لن يكون ذلك متأخراً؟ قالت له العجوز
"ماشغلك" تعال "ساعة الدِّهن"، جاء ساعة الدِّهن على ناقته
وكان العريس والعروس على برش السرو لبدء طقوس الدهن والجرتق، وقف هو قبالة العروس
الجالسة وبجانبها العجوز مواجهاً لهما حتى
اصبحت في مرمى نظره ونظر إلى قدميها الحافيتين حتى كاد أن يري انعكاس ألوان ضفيرة
البرش المُتَفّت على بشرة ساقيها و ضربت
أنفه روائح الدلكة والبخور والصندل فشعر وكان يقف في الهواء. صنقعت العجوز عاااااينت
لصاحبنا وأطالت النظر ثم خاطبته سائلةً
في صوت واضح سمعه الجميع: "الأمانة سيدها جاءها ما لقاها؟ تفرّست
أخت العريس وجه صاحبنا الزائر الغريب ثم نظرت بدقة في وجه
العجوز ثم إلتفتت إلى أخيها العريس قائلة له " هل فهمتَ كلمة العجوز وعرفتا معناها ولللا قاعد متل أم بوحاً طلقوها لي جناها؟"
رد العريس " أنا ماني أمبوحاً طلقوها لي جناها، حِرمت عليا واتحللت على ال
جاها"، بركت أم ذمة واضعة رأسها على الحُقّ، ردف صاحبنا
العروس خلفه على أم ذمة والتي انطقت بهما كالسهم إلى بيت أهله.
لكن الله وحده يعلم أن كان قد " أسعدها أم أشقاها".
Subscribe to:
Posts (Atom)