مسيد الفقير ود إبراهيم
بقلم: عبدالرحيم محمد صالح
حقوق النشر والطبع محفوظة
عبدالرحيم محمد صالح
© Abdelrahim M Salih
حقوق النشر والطبع محفوظة
عبدالرحيم محمد صالح
© Abdelrahim M Salih
كنا في طريقنا إلى مسيد الفقير ود إبراهيم نلقي نظرة،
توقظ وسواسنا الخنّاس، إلى دومة ود حُمّد علي الواقعة على تخوم أجراف كُلَة،
المسكونة، أي الدومة، بالحكاوي الأساطير عن مارد له فحيح يندفع منها في العتم من
لامكان فيهرب الكل أمامه
مذعوراً إلا من ردد "بسم الله الرحمن الرحيم" أو لبس حجاب "الحِصن
الحصين". يبدأ
من عند الدومة الصعود على كثبان الرمل إلى كُلَة، مسيد الشيخ ود إبراهيم، مقام
الأسرار الكونية والقوى الروحية المعززة بالتلاوات المُجوّدة، أو هكذا كنا نظنّ. في
باحة الخلوة وجوار شجرة الجميز الوحيدة، أطفال يبسطون سيقانهم المُتربة على الرمل
بوجوههم المُعفرة بالتراب رائحتهم دهن وحطب وشيوخ
بلحاهم المخضبة، بتقاسيم وجوههم التي لا تغادر
المخيلات، وعزيمتهم التي لا تُكسر لها شكيمة.
يتناول القادم مِنهم لوحاً ويجلسُ مقابل الشيخ، في شطري نصف حلقة على
شكل حدوة ويغمضون أعيننهم ويتطوحون في التلاوة تلاحقهم جريدة الفقير محمّلين بالتوق أن يدخلوا الجنة
ببرودة ذلك السبيل الذي تمددت أزيارة واصطفت وعقيدة راسخة
أنّ الدود لن يأكلهم في قبرورهم إن حفظوا ثلث القرآن. كان منظر ألواح الخلوة
المزيّنة بالأحبار والمصفوفة بعناية مركوزةً على حائط المسيد الطيني ودواياتها
المثبتة على الدكة كأنها سطور صفحات في
لوح غيبيّ لانهاية له. حجرات الخلوة العتيقة تعكس ذاكرة ذلك المكان
"المقدس" بعمر ثلاثمائة عام أو يزيد، وقيل إن في ساس (أساس) مسيد الفقير
ود إبراهيم حجار خضر جلبها جدهم الأكبر من جوار الكعبة المشرفة، بعد أن أذن له
سدنة الكعبة وخدامها، فلا يستطيع وُلُوجه،
أي المسيد، شيطانٌ ولا وحش. وقد وُضعت بداخله ثلاثُ راياتٍ خضرٍ كُتب عليها "لا إله إلا الله مُحمّدٌ رسول الله" ولكل منها كشكوش فضيّ مُدبب في أعلى
السارية، يرن حين تُهز الراية مع إيقاع النوبة حين
تُضربُ ضربا فتُدوّي في حلقات الذكر و قيل
إنّ كل ضربة عليها وتكبيرة تنزل بركةً على
الزرع والضرع وتقع كية على قلب الشيطان المفلوج بالغرور. كنّا نتأمل بعين خفية
صفوف المصلين رافعين راحاتهم حذاء آذانهم يكبرون للصلاة
أو الجالسين
الخاشعين يرددون بعد التسبيح مع الإمام "لا إله إلا الله محمد رسول الله في
كل لمحة ونفس عدد ما وسعه علم الله" ،على طريقة السادة الأدارسة، إلى إن يقول لايموت الميت إلا حين
ينقطع عن ذكره الأحياء ــــــ اللهم أرحم والِدِينا ووالد
والدينا وجميع من له حقٌ علينا ــــــ الفاتحة
ــــــ تقبل الله. وكنا نسترق السمع أحيانا فنسمع ما لانعرفه
مثل سورة "المقشقشة" وهي سورة لا تبدأ بالبسملة وعن كيف ربط أبو لبابة نفسه إلتماساً للمغفرة وأقسم
إلا يحل نفسه إلا أن يحل وثاقه رسول الله،
عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. ونزلت في ذلك سورة التوبة فركب بذلك جواد التاريخ وأمسك بعنانه إلى
يوم الدين . وهو
مسيد شُدت له الرحال، وتتلمذ فيه رجال ولو أنصتنا الآن لسمعنا صدى تلاوتهم من زمن
سحيق يسكن الجدران والسقوف وكان الملاذ الذي يلجأ إليه الناس. فالفقير بيته قرب
خلوته فاتح لا يوصد في وجه قادم فهو إمام القرية
وكاتبها وأمين أسرارها، وقاضيها ومأذونها وحكيمها. وقيل إنّ هذا المسيد شهد أضخم حدث في
تاريخ المنطقة: موت الفقيه ود أبراهيم! وقد نُحت هذا الحدث في ذاكرة الذين شهوده من
أبائنا مثل لوحة بيكاسوا
عن موت كازاجيماس، أو كلوحة أل غريكو عن دفن الكونت أورجاز أعظم اللوحات في تاريخ
البشرية، رغم لوحة أل غريكو عما يمكن أن يحققه
الفن من تقديس للبشر، فلوحة موت ود أبراهيم المنحوتة في ذاكرة الناس جسّدت
مفهوم كيف يموت الفقيهُ الفقيرُ عظيماً، أي لكأن ليس للمال الكلمة الأخيرة في
هذه الحياة.
في علبة ذكرياتنا ارتبط مسيد الفقير ود إبراهيم
بالمولد والعيدين. تبدأ مسيرة المولد من دار أحمد خالد، أحد أعيان بلدة السير،
بتسخين الدفوف الضخمة وتنغلق الدائرة حول السارية وتتكاثف الأنفاس وترتج الأصوات
وتتلاحق الأصابع وتهسهس خرزات المسابح
وتبدأ الهمهمات مع صوت النوبة "مرحباً يانور عيني مرحبا، مرحباً جدُّ الحسين
مرحبا" ثم يتفجر صوت جماعي "حيٌّ قيوم. ــــــ
حيٌّ قيوم" فتتسارع وتيرة الإيقاع تخلتط بروائح البخور والصندل وزغردة النساء
فيتحول الصوت الجماعي إلى دحّة تردد كلمة
"حيٌ، حيٌ" مع الميل أماما
وخلفاً ووضع الكفين أمام الفم بغرض تفخيم الصوت
ويرددون أبيات من بردة البوصيري ويقال إنّ البوصيري
كان مشلولاً وحلم بالنبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأنشده تلك القصيدة ، فألقى
عليه المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام ببردته، فأفاق من النوم وقد شُفي تماماً
وهذا هو سر تعلق الناس بها. تبدأ المسيرة
المزيّنة بالأعلام والقفاطين الخُضر المقصبة يقودها العم خَتِم، بإيقاعات
"الدائم ـ دائم الله"، و"السادات الأولية" لتنتهي في باحة
المسيد وتُختم اليلة بـ " مولايّ صل وسلم دائماً أبدا" . وأذكر من قراء المولد المشايخ محمد أحمد علوب وأوشينتود
وحسنتود وعبدالحميد القاضي، رحمهم الله
جميعا رحمة واسعة.
في ليلة العيد نترقب ثبوت شهر شوال، ونتظر بجوار المذياع بيان الشيخ عوض
الصالح، و "أوحشتنا شهر الصيام" وتبدأ أدعيةٌ وطقوسٌ مغرقةٌ في العراقة
ومنبعثة من عصور سحيقة. ليلة العيد "سجع الحمائم فوق الأغصن
الغيد" وهي شوق الصباح ويقظة الكون والأحلام الباسمة. ما حيينا
سيتربط العيد عندنا برايات من القماش الأخضر الفاتح المبطن بالقطن الخفيف مثقلة
بالتظريزات والأطياب تنزّ أطرافها ُ بطيب الصلوات وحناجر تكبر ومشاة خلف الراية بالمسابح والطواقي ورائحة المسك والعود تتجه
شمالاً سالكة درب الميري حتى الضريح فى كرام بقبابه الثمانية الممتدة من تور
بلول شمالا حتى تور الشرق جنوباً وقد أمتد غربها دهر من الرمل المشبع بروائح الأجداد يقام عليه أنشاطة العيد
. ما أن تلوح قباب كرّام حتى تتجه الرايات شرقا، تلك
الالتفافة صوب الشرق حيث مقام صلاة العيد، حيث تصطف الوجوه واللحى لتحية موكب
الراية تنصب الرايات ويشرع الناس في قراءة البراق وتُهز الرايات أثناء الأنشاد
فتُحدث صوتا مميزاً، إلى أن يأتي أمام مسجد
كُلّة فيصلي بالناس صلاة العيد . يكاد الواحد منا
يشتم عبق ذلك الزمن بموكبه من كُلَة إلى كرّام،
حلقات الطار، ضجيج ومرح أطفال، سباق الجمال، داعوات الجدات الزائرات
للموتى، بائعو المسابح والطواقي في كراتين ورقية، أصحاب الكِرِتلات، باعة أكواز
الليمون والكركدي، والبالونات والصافرات .حدائق من ألق لزمن عابق
بالذكريات.
No comments:
Post a Comment