Monday, June 24, 2024

 في شفخانة السير
عبدالرحيم محمد صالح

وصل إلى عتبات مسطبة شفخانة السير يتسروك، شعِث، قشِف، أوهنه الإعياء وقد جفت شفتاه وتشققت. وحين هم بالدخول إلى مكتب العيادة سبقته روائح صبغة اليود والشاش ورائحة وابور الجاز الذي تُعقّمُ على ناره الأدوات. ثلاث زجاجات بألوان مختلفة وُضِعت على رف شمال المدخل تحتها منضدة ألمنيوم عليها علب مختلفة الأحجام أشهرها علبة السلفا! طاولةُ كشفٍ بغطاء بلاستيكي أحمر تتمدد وراء حجاب فاصل تحت النافدة . شعر بأنّ وجهه المسفوع صار أكثر كلاحة من التعب فجلس غير عابئ على دكة اسمنتية ملساء متكئاً على حائط ذي لون أخضر زيتي يتأمل المكان بضيق وحزن لما أصابه من مرض! سأله التمرجي ذو السترة البيضاء والذي يُقالُ عنه إنّه عجن التمريض وخبزه بعد ألقى نظرة على دفتر العيادة المدرسيّ "عندك شنو" "عندي وِردي" ونطقها بشق الأنفس ولسان حاله "أفصحُ القولِ إيحاءٌ بغير فمِ "(الوِرْدُ: كلمة فصيحة وهي من اسماء الحمى) .أخرج التمرجي أنبولة زجاجية صغيرة وسحب ما بداخلها بمحقنة (بدأت له ضخمة) أخرجها من الغلاية. كان يرفع المحقنة إلى أعلى وينقر عليها بـظفر سبابته ثم يضغط على المكبس لتكون خالية من الفقاعات الهوائية كرر ذلك عدة مرات، ثم حدد موضع الحقن ونظفه بقطعة قطن ثم دفع بالإبرة في عضل يده اليسرى وأفرغها في وريده. كان يخشى أن يعطوه المزيج وهو شراب في كأس صغيرة لا طعم ولا رائحة ولا اسم له غير المزيج، كان يُعطي دواء لكافة الأمراض. سَعِد بالحقنة رغم ضخامتها وهو لا يدري لم غرزت في ذراعه ولأي مرض تكون! ما أن وضع التمرجي الحقنة الفارغة في سرويس طلس أبيض يستخدم وعاء لتعقيم المحاقن، ساد مدخل الشفخانة ضجيج وجلبة. مد عنقه لاستراقِ نظرةٍ. تدافعت، في اضطراب، مجموعة تسند أذرع صبي دخلت في راحة كفه، أي الصبي، صنارة كبيرة وخرجت من الجهة الأخرى للرسغ. ظلَّ هو يرقب الأحداث ممسكا بالقطنة التي وضعها التمرجي على عضده! ارتبك كل من في المكان من بشاعة المنظر وتألم الصبي ودمعه الذي لا يسيل منحدراً على خدّيه، بل ينتثر بعيداً! كان حين يسأل التمرجي الصبي "توجعك وين" يرد بألم مشيراً بسبابة يده الأخرى إلى قلبه "إنْدو". اندفع عبر الباب من الغرفة المجاورة المساعد الطبي رجل طويل صارم بسحنة جنوبية بائنة. لم يتحدث مع أحد ولم يسأل أحد. بلا تباطؤ أمسك بذراع الصبي وحقنة بحقنة لم نتبين مصدرها. هدأ الصبي في الحال أمسك بآلة تشبه الزردية كسر الصنارة وأخرجها وقام بتضميد الجرح وانصرف في ثقة ورزانة يُحسد عليهما! لم يستغرق ذلك أكثر من دقيقتين. جلس هو يرقب الصبي ومن معه يغادرون سائرين كقافلة إبلٍ سارت وابتعدت أخفاها سراب الصحراء ! كتب التمرجي على دفتر العيادة "راحة" وناوله إيّاه، أجبر ساقيْه على النهوض بجسده الخائر عائداً إلى المدرسة! رفع أهدابه ليتفحص مواطئ أقدامه عند عتبات المسطبة، ضربت الشمس حشيشة رأسه "الخنفس" ولفحته سموم حارة جافّة محملة بالغبار آتية من جهة شمال الشفخانة " بين الطابونة والكارة "حيث تربض الإبل وتنتشر سوق السائمة والمجلوبة ويتجادل "السبابة" والباعة و"فِريِّشة" البرسيم أمام "الكارة" الشهيرة! يُقال إنّه كان للشفخانة خط هاتف ساخن مباشر بحكيمباشي اسبتالية دنقلا للاستشارة في الحالات الحرجة والاسعاف. وللشفخانة أيضاً اسعاف كومر بسائق مؤتمن ومحترم ومحترف. أيامٌ مضت...ظلت بناية تلك الشفخانة حتى عهد قريب، ربما حتى اليوم، "لا شق لا طق" تتحدى الزمن بينما بعض ما شٌيِّد من مبانٍ حديثة متصدع ولم يبق فيه غير بقايا أخشاب متآكلة على سقوفٍ آيلة للسقوط. مر قرابة النصف قرنٍ من الزمان وهو مازال يستغرب ويفكر كيف كانت تلك الشفخانة الصغيرة ذات الغرفتين والمساعد الطبي وطاقم من ممرضين أثنين وداية واحدة تغطي كل احتياجات البلد! هكذا حاله يراجع في الهواء خيالاته ويظلّ ينبش الأحداث ويتخبط في بقاياها يفتشُ وجوهَ الرجال في مجلس الذاكرة دون الوصول إلى ما يريد! أين يجد صورة لتلك الشفخانة العريقة؟ أين يجد ذلك الفارس الرزين من أبناء السير ليحكي فينصت، كما كان يحكي من قبل، بكلمات "مليانة" ملء جبخانة بندقيته الشهيرة؟


 

١٩٨٣م
عبدالرحيم محمد صالح
بدأ قرص الشمس الأحمر مثل لوحة زيتية على صحفة الأفق خلف أشجار النخيل والدوم وبيوت الطين ووجوه لم تغادر مخيلتي، ظللت واقفاً شرق الحِلّة أقلب وجهي بينما دكنت حُمرة الشمس الغاربة! سرت على الأقدام راجعاً؛ رائحة مميزة ملأت حواسي أقرب ما تكون لروائح تعرفها طفولتي مثل تركيبة عطار بارع جمع روائح البحر والترمس والطين والبرم والتقطت رادارات حواسي أصوات فاضت من أزمان بعيدة . تجمعت سحب الذكريات العذبة وهطل هتانها على قلبي! هنا كانت بويرات حامدة (جمع بويرة تصغير بير)، حيث كنا في طفولتنا "نَكُر الحوت"، قطع ذلك الهدوء صوت برينسة تقطع الرمال كما تمخر السفن البحار، جلس على التندا ثلاثة رجال ملثمين وعلا صوت شريط الكاسيت يغني بصوت ساحر "حنني يا أختو الكبيرة وحنني وسوي لي الضريرة وحنني لي بت القبيلة" مرّ مخلّفا خليطاً من الغبار ورائحة البنزين. التقطت نفساً ثم مررت لساني على شفتي السفلى ليرطبها وأنا اتتبع النغم وأنظر إلى البرينسة تعلو وتهبط في مطبات مجرى درب العربات "المبحِّر" شرق العوازمة. داهمتني وجوه اهترأت في ذاكرتي ملامحها، هنا كانت طلحاية "بت إدريس" وزريبة أغنامها، وهنا كان القبر القديم الذي نبشه أحد أعمامي ظنّاً منه أن سيجد خزنة يحرسها "دَقَرٌ" له قرنان بينهما جوهرة لـِيصبح بعدها غنياً لـ "جنا جناه"، أضاع عمي يومه وأهدر جهده بعد أن تبين (لنا لاحقاَ) أنه قبر لرجلٍ مرويٍّ فقير. ظلّت الخزنة ودقرها ذو القرنين تلاحقه في أحلامه وحكاويه لكنه لم يجدها في يقظةٍ قط. وفجاءة انسل آخر شعاع من الشمس وقد غاب نصفها بين أفراق تمرات عبد الله الأسطى منيراً جرائد النخل بلون ذهبي يخاتل البصر راسماً آخر خطوط لوحة الغروب. عاد الرعاة من "العبادة" وكذلك الزراع يحفهم اليقين والرضا، تذكرت قول أمي "يا ولادي المغرب شيطان" قفلت عائداً وصلت إلى بئر الحصا في جنينة النخل وغرفت دلواً من الماء الدافئ وقد أذّن ود رحمة لصلاة المغرب قبل أن أكمل الوضوء. جلست بعد الوضوء اتفكر في الصراع بين الثقافة والدين نتفاءل بالشروق ونتغنى بالمغيب بالخدود الشاربة من لون الشفق عند المغارب ديل خدودك سيدي سيد الناس يا سيد الحبايب" ونطرب بـ "نحن راجعين في المغيرب" والدين يقول ما معناه الشمس تطلعُ بين قرنيْ شيْطان ويقول أيضا "إِذَا كَانَ جُنْحُ الليل أَو أمْسـيتُمْ فكفُّوا صبيانكم". وقفت أمسح الرمال بقدمي اليمني وأقيم الصلاة!
May be an image of tree