"عَلَّمَتهُ الحياة"
عبدالرحيم محمد صالح
ما علّموهُ في المدرسة أن يجابه الرأي برأي أوثق، بل كان عليه أن يسمع كلام المعلم، أيّ معلمٍ كان، مهما جدب وجدان ذلك المعلم وغشى بصره ومعرت معرفته. فالمعلم آنذاك كانت له إمارة ونهي. كان عليه، كتلميذ ناشئ، أن يحني رأسه ودومًا يكون مطيعًا. لا يدري الآن إن كان ضرب ذلك المعلم المتكرر له بسبب أو بدونه، بالسوط أو بالكف، قد أفاده أم لا؛ كانت، في رأيه، إهانة مستمرّة وذل واحتقار وفظاظة واعتساف؛ كان التوبيخ ونظرات الشفقة والخوف من الأعين المتلصصة من زملائه موجهة نحوه وحده في الصف دون الآخرين. غَلَت به الحيرة التي لم يجد لها حتى الآن سبباً أو مبررًا أو تفسيراً .لأن "رسول العلم" و"أبو صفّه" كان يضربه دائمًا ويصفه بـ "البليد" ويتعمد إذلاله أمام التلاميذ وهو لم يفعل يومًا ما كان يستحق ذلك الضرب وتلك الإهانة المتكررة في كل يومٍ دراسي. كان يعتمد على حدسه في التقاط ضغن وغل ووغم (حقد دائم) هذا المعلم ودافعه للانتقام منه متى ما رآه لسبب يجهله وكان ذلك يراكم داخله نوعًا من الغضب، بل صار غضبًا مستمراً بسبب وبدونه وصار هو نفسه ميال للعنف ضد الطلاب الآخرين. ما كان أحداً يستطيع الذود عنه؛ شكا لوالده فكانت الإجابة معه حقّ يريدك أن تكون رجلًا؛ رجلًا متعلماً ذا أخلاق عالية! ست سنوات قضاها في المدرسة كان الأستاذ يضربه ويتلذذ بجلده حسب مزاجه المتعكر المتقلب؛ كأنه يهيّئه لكلّ أشكال الضرب التي ستأتي. لكن ذلك حسّنّ مقاومة جلده وعظامه وخفف إحساسه بالألم فصار في استطاعته شدّ عصبه وإغلاق حواسه متوفَعًا ألم الضربة. تشتد أوتار أعصابه فيشرب لوعة الضرب كمن يشرب فنجان القهوة البكر في ضحى يوم شديد البرودة .عرف أهميّة الاستعداد للألم حين صار يقف أمام زمجرة وسوط الأستاذ كالصبة وكأن الأستاذ يضرب على عمود في الفصل لا طالب بلحم ودم .صار المعلم حين ينظر إليه يرى في وجه تقطيبة رجلٍ مُبَّرد بالمر لا وجه طفل برئ جاء "يطلبُ العلم الكثيرا"، لا يرى في وجه "طبيباً أو وزيرا أو صحافياً شهيرا" صار يري وجه في رجلٍ مكحل بالإرادة والصبر وقوة التحمل. ماكان أخْضَعاً يوماً وما رضي بالذُّل أبداً، لكن يوم المذلة والمهانة والمحقرة لعدد كبير من التلاميذ كان يوم توزيع النتائج في الطابور أمام كل الطلاب والمدرسين وبعدها بزمن قليل تعلم كل القرية نساء ورجالاً؛ فقد تجرع ذلك الكأس المر ست مرات واجه فيها مئات الأعين الشامتة منها والمشفقة ترقبه وهو يستلم نتيجته في ذيل القائمة. ما كانت أيام المدرسة، في رأيه، أياماً للتعليم بل كانت أياماً للتشهير والتشفي.
لا علاقة لما أكتبه هنا بالمدراس التي درستُ فيها ولا المنطقة التي نشأت فيها، بل لها علاقة بصديق عزيز عرفتني به الصدف والمقادير في أحدى أطراف السودان النائية أنا في مجال عملي العلمي وهو في يعمل في مجال التجارة، كنت ضيفه لعدة أشهر. رجل كريم وثري وشهم ومباشر وشجاع ومقتدر ومكان احترام وتقدير بين أهله وجيرانه وأقرانه. جاءت الدعوة من أبناء القرية في عصر ذلك اليوم لتكريم المعلم المذكور لبلوغه سن المعاش ورغم أن الدعوة وصلته رسمياً لكنه لم يذهب وذلك تصرف لايشبه صديقي في شئ فهو رجل رائد في أهله وقائد لمجتمعه.
كنت ضمن من حضروا ذلك "التكريم"، صعد بعضهم على المنصة المُعَّدة للاحتفال تهجدت أنفاسهم تحشرجت الحناجر ولهجوا بالثناء علي الأستاذ وعلى التعليم في ذلك العهد الذي وصفوه بـ "الزمن الجميل" وعلى مقدرات الأساتذة وتجردهم في خدمة العلم والتعليم. ساد المكان صدى السنين وجدول الحصص وجرس الطابور وحصة الفطور وأناشيد ومحفوظات وأوائل وطُيّاش أطالوا الثناء وأعادوا بعض المواقف الطريفة وأضفوا ذلك المعلم والتعليم آنذاك مايجعله حفيّ به من تكريم، ونسبوا إليه صموداً حقيقياً كان أم مزعوماً أمام التحديات، لكني لم أكن شاهداً على ذلك العصر لا أعرف أن كانت تلك خيبات تستحق اللعن أم "إنجازات" تستحق الإشادة، أم مجرد واجبات كان المفروض عليه القيام بها. لكنني لم أر إنجازاً لذلك المعلم عدا بعض الذكريات التي كررها خطباء التكريم فهو لم يقدم أكثر مما قدمه الآخرون كالمساعد الطبي أو أيّ شخصٍ آخر مدفوع الأجر. حتي الكلمة التي قالها ليشكر القائمين على أمر التكريم كانت من قربة الأنا المقدودة التي حملها على كتفيه كل هذه السنين أو هكذا كان أحساسي.
حمى المناسبة كانت كفيلة بالحفر في وعي صديقي "الضكران" عن أستاذه الذي كُرِّم و رفضه المشاركة. أربكه سؤالي المباشر فشعت من عينه نظرة غضب هيجت عنده مكامن الألم في ذاكرته وذكرياته قائلاً: "بسبب هذا السادي لم ترتفع زغرودة من حلق أمي يوماً ولا باركت لي شقيقاتي النجاح، حاصرتني عيون الخيبة وعبارات 'بليد في المدرسة' وصارت لمحة ماضي 'القراية' عندي مثل كيّة في قلب ملتاع أرهقه الألم (زي اليدوني مرواد) فخرجت أبحث عن عمل في سوق قرية مجاورة وكان أول عمل نجحت فيه هو عملي 'صبي جزار' .أجلسني الجزار بجواره ووضع 'سكين الضبح) مدية الذبح( الكبيرة' أمامي، قائلاً: 'ياجنا' السكين لاتكذب أبداً وتعرف خباياك وتعطيك خباياها، عاين للسكين دي وهي أيضاً تنظر إليك يا أما ساقتك إلى دروب الإجرام أو قادتك إلى دروب الخير، فانظر ماذا ترى فإني لك من الناصحين، قل لي إحساسك الحقيقي." قلت له أشعر إنّي سأكون تاجراً كبيراً تلقفت الملائكة كلماتي وقال الله "كن" وأنا كما ترى الحمدلله تعلمت من ذلك الجزار الأدب واحترام الآخرين خاصة النساء والضعفاء .منذ أن كنت طفلاً كنت أدخل السوق "فتاح ياعليم" "زراق ياكريم" "أفتح الله" و"أستر الله"، قابلت الدنئ والراقي، والبخيل الكريم، والشجاع والخواف، المتسرع والصبور، والكذاب والصادق، المدعي والواعي، والعفيف والخائن، الغدّار والوفي، والصديق والانتهازي، والجاد والإتكالي، ولكن والله ما غششت أحداً في بيع أو شراء ولا مددتُ يدي لحق إنسان ولا شربتُ خمراً ولا هتكت عرضاً في حياتي أبدا. قال ، في المدرسة، كنت طالباً كالآخرين لكن ماكان قلبي في ذلك النوع من "القراية"، أنا زول توريني بيان بالعمل مرة واحدة لأي صنعة ولن أخطا بعدها أبداً لكنني مازول سين تربيع وليس لي في قمم جبال أطلس رزق! نما مالي يرافقني فيه إجلال من هنا وحسد من هناك ولكن كان مدادي في كتابة نجاح أعمالي ذلك النور الذي لاتخفتُ أدعيته الصادقة من قلب أمي. نفث كلماته وقالها صادقة وكأنها أتت من عموده الفقري وكأني سمعت دعاء والدتِهِ "تنده" وتسأل الله "يعليك فوق المابيك تبقى جبلاً ما ينطلع وبحراً ما ينقطع، تتعلى ما تدلى برکة الصالحين وقُدرة رب العالمين" وأردف قائلاً" : ماتعلمت في المدرسة لكن تخرجت من مدرسة الحياة بشهادات في الأمانة والإخاء والصداقة والمروءة ورفض الضيم. والزول دا، يقصد ذلك المعلم، منذ سنة سادسة ابتدائي ما جلستُ معه في مجلس واحد". قطع حديثنا صوت آذان رخيم تتسمر له القلوب والآذن آت من مأذنة مسجد قريب بناه صدقة لروح والدته، لم يرفع أهدابه وهو يتوضأ، استلمه خشوع وهو يختم الوضوء وارتفعت روحانيته وهو يردد "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين".....أوغل الليل وسكنت الحركة وأنا أجول بين أفكاري المتضاربة بين نظريات "حماية الخصوصية"، "استكشاف المواهب"، "بناء الذات"…كيف استطاع أن يشق وحده طريقه إلى الأمام من الفشل إلى النجاح بلا نظرة للوراء؟! ... صحيح قيل "كاد المعلم أن يكون رسولاً"، كثير من المعلمين في بلادنا رسل علمٍ ولكن...