Saturday, October 26, 2024

 

كتابات على رملٍ زاحف (٢)
عبدالرحيم محمد صالح
 
دخلت تفكيري "منسربة بشيش" تنكث رف الذكريات ودفعتني لمراجعة كتابها المطمور في أدراج الذاكرة عبر أصداء مرتجعة من بلاد "الطراوة"، من رمال قوز اللباب. لفح وجهي "سموم" ذات التحدي نفسه كيف أكتب عن امرأة لمجتمع يرفع الرجال فيه العصا لمجرد ذكر اسم إحداهن! لكن ظلّ يحثني صوت طروب فريد وأكف تصفق وروائح وعطور ووجوه ساحرة آتية من أزمان مضت هبطت بعبقها على قلبي! كانت لا تبدأ حفلات اللعب في الأعراس إلا بوجود زوجها شرط أن يكون أول من يبشر ويعرض. كان يندرج (يربط شاله على خاصرته) يبرم شاربيه ثم يبرج (نوع من العرضة) ثم يعرض على ايقاع "الكباشي" ودلوكة تهبك "عبدالرحيم مالو ماجا، الكرّار مالو ماجا، سيد الدار مالو ما جاء، الهدّار مالو ما جاء" كان يهوش وينظر في وجوه الرجال يدقق في عيونهم واحداً واحداً يبحث عن متحدٍ (تقولي روميو وجوليت؟). في زمن كان فيه الزار عند النساء كالدكاي عند الرجال مقبول ثقافياً والمخمور يقال له "شبعان"، أما المريسة ومشتقاتها كانوا يسمونها "العيش"، وهذا درب آخر فنحن لا نستطيع محاكمة "جهل الماضي" بمعايير "وعي" اليوم، إن صحّت المصطلحات. أما في مناسبات الزار النسائية كانت تلبس ثوباً "أحمر زاهي" وهي تمسك بمقود حلقات طقس الزار. استرقتُ السمعَ مع بعض أصدقاء الطفولة على إحدى حلقات الزار تلك والتي كانت هي ربان سفينتها وحين سمعتها تغني " أحمد البشير الهدندوي" دخلتُ، أنا، في ذهول فدسترتُ وعسكرتُ في آن واحد. والدسترة هي أن يفقد الانسان وعيه ويأتي بحركات لا إرادية في حلقة الزار أما العسكرة هي يفقد الانسان وعيه ويأتي بحركات لا إرادية في حلقة الذِّكر. امرأة لها ايقاع وصوت لو سمعه المبارك شيخ الظهر لجلس أمامها تلميذاً مبتدئاً. وحين تغنت بـ "النونكَرَرِي" بكلمات من لغة لا نفهمها صرنا كرقعة في سير طاحونة ذلك الايقاع وسَبَحنا في حالة "البين بين" حتى كادت أرواحنا أن تنفصل عن الأجساد. كانت حين تتحدث تتكلم بعبارات واضحة لا تحتاج شرح ولا تبيين ، ظلت على جمالها الذي ما رأينا مثله أبداً، بل ظلت أجمل من الشابات حتى بعد أن تقدم بها العمر. يؤديها بعض علماء علم النفس ويخالفها الفقهاء لكن في قرارة نفسها ما كان لديها ذرة شك أن رقص الزار علاج . ارتحلت لكن بقيت بيننا بذكرياتها وكرمها الفياض وضحكتها الحنون ووجها الذي لا يُنسى، لها الرحمة والمغفرة.