Monday, September 12, 2022

القَصّاص (١)

 القَصّاص (١)


* الصورة من محرك البحث قوقل

عبد الرحيم محمد صالح

كنت سائراً خلف أبي في سوق دنقلا العرضي، المكتظ بالعربجية في جلابيبهم الداكنة يتصايحون بلهجتهم الصعيدية المميّزة، وأنا ابن الست أو سبع سنوات حين توقفنا بإحدى الفرندات، سلّم أبي بحرارة على رجلٍ مليحٍ وجيه على رأسه قُطرة (غترة) حمراء مثبتة بعناية. كان جالساً على كرسيٍّ خشبي وطلب إليّ "يا ولد سلِّم على عمّك القصّاص". نظرت إليه أنا أمد يدي للسلام، رجلٌ رشيق له أنف حادة مستقيمة وعينان مثل عينيّ حدأة. تفرَّست في وجهه ملياً فأنا بطبعي شخصٌ "فِرِّيس" فشعرتُ أنه شخص غير عادي، فزيادة على حسن هيئته وهندامه، بدأ لي كأن له وجه صقر على جسد إنسان وتمنيت ساعتها أن أكون مثله قصاصاً. وحين لاحظ هو تفرُّسي في وجهه سأل أبي وهو يبتسمُ "التلب دا ولدك"؟ أعجبتني إجابة والدي فكنت ولعلي مازلت أحبّ من كان يحبهم والدي وأعزُّ من كان يعزّهم والدي وأُقدِّرُ من كان يقدِّرهم والدي وأواصل من كان يواصلهم. أخرج من جيبه الجزلان المصري أب صدف وناولني شلناً، رفضت أن آخذ الشلن منه إلا بعد أومأ لي والدي. اشتريت من سوق دنقلا بذلك الشلن التاريخي المرَرو (الفول السوداني) والتسالي والزلابية أكلت جل ما اشتريت وتركت القليل منه لأجُخَّ وأحندكَ به أقراني من أولاد وبنات الجيران. بعدها بنحو أسبوع وبينما كنت أرعى الإبل في أحد الجروف شمال قرية السير إذا بجلبة وصياح آتية من بيت امرأة تسكن شمال السوق فذهبتُ استطلع الخبر. فعلمت أن رجلاً غريبا استأجرته الامرأة ليقطع جريد نخلات لها انتهز الغريب فرصة ذهابها للسوق فدخل بيتها وسرق مجوهراتها واختفى. حضر رجال القرية وغطوا آثار أقدام الرجل واتصلوا بالشرطة. لم يمض وقتٌ طويل حضر صديقنا القصاص برفقة الشرطة، بدأ بشوشاً وقوراً لم يسأل عن الشخص السارق ولاعن ماذا سرق ولم يتكلم مع أحد! كنت أرقبه عن قرب ببصري الذي كان يرتطم بتعابير وجهه وحدة نظرة وقوة ملاحظته ويرجع، كان حين ينظر إلى الأثر تتحرك عيناه كعدسة كاميرا يصور الأثر بعينيه ويحفظه في دماغه حفظاً أو هكذا فهمت! عاد وجلس في المقعد الأمامي في كومر البوليس. قال البوليس للحضور أنهم أخطروا بنطوني دنقلا وأرقو للقبض على المشتبه متى حاول أن يعدِّي غرباً أخطروا بوليس دنقلا وأرقو وكرمة بأوصافه وأنهم سيقبضون عليه خلال يوم أو أثنين. ورد تلغراف من شرطة أرقو يقول إنّ شخصاً فيه أوصاف المشتبه فيه شوهد في حجرة بنطون ارقو، تحرك كومر الشرطة والقصاص إلى أرقو "قطع" القصاص الأثر ومسح المكان وأجزم أن صاحب الأثر لم يمر من هناك أبداً. وفي طريق العودة توقف الكومر في نواحي أولاد ود إدريس، خرج القصاص بالأبريق وعاد ليؤكد أن صاحب الأثر مرّ من هنا وأنه ليس بعيدا من هنا. أدركناه في راكوبة قريبة يتوسد بقجة ملابسه. رجل فقير معدم سحَّ العراق تاركاً بقعاً على ملابسه الرثة المتسخة ترك بلدته يطارد أحلامه باحثاً عن أبواب الزرق في أرض الله الواسعة. وقف مرتبكاً ومنزعجاً حتى رقّ وهجُ عينيه وصاح بصوت رجلٍ مفجوعٍ قبل أن يصله رجل الشرطة أو يسأله أحد “يا ناس أنا مو سراق أنا محتاج"، قال له الأمباشا "كلامك دا تقوله في المحكمة" ولم يزد. وأخرج الرجل المسروقات دون أن يُطلب منه ذلك. ما أَسَّاء إليه وما ضربه أحد. أخذوه إلى مخفر الشرطة وستروه وعفوا عنه ولم نسمع بعدها عنه شئيا وتلك ثقافة مجتمع ستِّير الستر دينه وديدنه ويؤمن حقاً بـ " (لا يستر عبد عبداً في الدّنيا إلّا ستره الله يوم القيامة)