"مين القدرو؟"
عبدالرحيم محمد صالح
منذ لحظة وصوله بيت الرقيص استنشقت أنفه رائحة غبار أحداث معاركٍ أتت من الماضي فتحسس عصاه المضببة فارتعد هواء الليل المخلوط بروائح العطور والحناء والسجائر البنسون والزغاريد والطرب! أُضئيت الرتاين وأُشرِعَ الباب للداخلين هبكت الدلوكة وارتفع صوت المغني الصدوح " حُمّد أحمد الكُنوني، موية الساقية ما بترويني، أنا كان مُتَّ يا أخواني، قُبلي السير أدفنوني، جمب حاج أحمد التكروني" هاجت الدارة وماجت وارتفعت العصي بالمبشرين وانتظم الناس في حلبة الرقص وبدأ أحدهم ممسكاً بسوطٍ وعصا يفجج الدارة فيستجيب البعض ويعترض الآخرون .نزلت الراقصات كظباء العساين إلا أنّ "جرَّ الوضيب" و "ميل الديس" عندهن عجيبٌ!! سقطت شلالات الشبابيل على الرؤوس والخدود وحين تُشبِّل النساء تلوى الواحدة جيدها كما تلوي اليمامة رقبتها على رقبة وليفها فيفوح عبق عطور الوجد المركبّة منذ آلاف السنين! عَرَضَ الرجال ورتَبَ بعضهم وركزوا وعلت الزغاريد وارتفعت ووقف هو على رِجلٍ واحدة وقد ثنى رجله واضعا باطن قدمه اليسرى على ركبة رجله اليمني متؤكاً على عصاه مشنقاً طاقيته مصنقعاً ناظراً أعلى هامته صائحاً في وجه مُنازِلهِ "أضرُب هِني" مشيراً بأصبعه إلى عينه اليمنى تحدياً و"رجالة" وارتقى سلَّم "الهاشمية" واختلط عنده العشق بالعنف المصحوب بـ "محل رهيفة ال تنقد"!مازادته وقع السياط إلا قوةً وتحَمُّلاً. أشتد وقع السّياط ورجعها وأشتد التدافع والنزال الكل يريد أن يرتب ويصمد أمام حفيف "عزرائيل" لقب سوط المحمول في تلك الليلة وقيل عنه إنّ ضربةً به مثل "جهنم الحمراء" فمن أول سوط يفقد من يرتب حاسة السمع مؤقتا ويرتبك نفَسَه و تتداخل صور الأشياء أمامه ويتحول لون الأشياء إلى برتقالي أحمر! بين العطور والبخور والغناء استمر الفرح والسمر والطرب حتى هوّد الليل وكانت ليلة ليليّة في قَسَنيب وأعراف ذلك الزمن.
ضربه مُفَجِّج الدّارة في عظم ساقه ضربة مؤلمة وهو يحث الناس على توسعة الدارة فهاجت في صدره الشياطين فجاوبه ببصقة انتشرت في المسافة بين وجهيهما وأردفها بلعنة يخقنها الغيظ والغضب ودفعه بثقل جسده واصماً أياه بالعِرق الخسيس فتكوم، أي مُفَجِّج الدّارة، على الأرض! تدخل الناس بينهما هذا من شيعته وهذا من عدوه وتعالت الأصوات والجلبة فكانت كقدحة زناد فصارت أم هنبوكا. بدأت المعركة بحجر ضخم أطاح بالرتينة تدافع الرجال واشتبكوا بالعصي وسط عويل النساء وهلع الأطفال وقد أُغلق الباب فامتشق كلٌّ عصاه وضرب واثخن بلا استثناء وانتهت تلك الليلة كسابقاتها بين فرحٍ وطربٍ وشِجار وانفض السامر كأن شيئاً لم يكن...
عندما وصل واستلقى على سريره وقد غلبه النعاس كانت آذنات الفجر تتداخل "الصلاة خير من النوم" أمّن المؤذن على دعوته التي تلقفتها ملائكة الرحمة وفاق آخرون يدعون يا أرحم الراحمين. أصبح وظل نهار ذلك اليوم مقبوض القلب وانسحب جسمه في فراغ روحي وعندما حانت ساعة صلاة الظهر توضأ وصلى وأطال وغادر المصلون إلا هو وأبوه ينظر إليه بفخر وهو يتوغل في الاستغفار وكان ذلك اليوم هو يوم تغيّر فيه مسار حياته وترك دق السوط وحفلات الرقص. ظل يعاوده الحنين كلما لاح ركب "أُقجر" يطوف شوارع الحلة دعوةً لفرح أو كلما سمع صوت زغاريد آتٍ من مكان بعيد بدءاً لفرح لكنه تيقن ووقف رغم ذلك ظل فخوراً بتاريخه الذي خلده ذلك السوط أقواساً على ظهره فراسةً وهوىً وتزكاراً من زمانٍ مضى.