ولدته أمه واقفة مثل فرس ممسكة بحبل تدلى من مِرقٍ عتيق في سقف بيت العويش الملئ
بالأُرم وهي تعض طرف طرحتها المشبعة بروائح السمن والأعشاب و زيت الكركار لتصمد تحت
سوط الألم حتى لا يسمع صوتها أحد، فالصراخ عند الولادة في عرف أهلها الرعياب عيب!
لم يرها حين ولدته وأخويه الآخرين وبنتها الوحيدة غير الداية مخلوق! ما أرضعت أيّ
من أبنائها راقدة أو مُتكئة قط فذلك، في قولها، فعل الكلبة والكسول .حين مات زوجها
أمسكت ماله ورعت غنمه وأبله ولبست سرواله يوم خروجها من العدَّة إعلانا عن رفضها
الزواج بعده رغم أنها كانت دون الثلاثين وقررت ألا تؤمر عليها وعلى بنيها أحداً!.
وقيل إنّها كانت حريصة أن تضع الزيت على سرة الرضيع من أولادها حتى تجف ويوم تسقط
تدفنها بنفسها عميقا في قعر بيتها، فظلوا حولها ولم يغادر بنيها الديار إلا
للتجارة. أحكمت سيطرتها على حياتها وما جلست في حفلات الشراب والزار يوماً. كانت
صلواتها وأدعيتها ونديهتها آناء الليل وأطراف النهار النور الذي بدد ظلمات حياتها
وأنار لها جادة الطريق عاشت تحجب نفسها عن الأغراب، لا تقابل قادماً أو زائراً إلا
في كامل سترها يوقرها الرجال قبل النساء علّمت نفسها أو علّمتها الأيام أنّ الصمت
أعظم شئ يمكن أن يتعلمه الإنسان فكانت سكوتة وأذا تحدثت أوجزت بكلمات واضحة مملؤة
بالفصاحة. غرست في شخصيات ابنائها الأنفة وعزة النفس والاستقامة منذ آلصغر فنشأوا
كما أردات مرفوعي الهامة ورفيعي المقام عفيفي اليد واللسان ! فقد تركت في وجداننا
وقائع وأرث وشهامة يصعب أن تنمحي. وقد ماتت ما ماتت فضائلها وعاشت وهي في عداد
الناس أموات! لها الرحمة والمغفرة ولنا شرف الانتماء تعيشُ في دواخلنا